• مرحبا بكم

    تم تطوير شبكة ومنتديات الجميزه للتماشى مع التطور الحقيقي للمواقع الالكترونيه وبهدف تسهيل التصفح على زوارنا واعضائنا الكرام لذلك تم التطوير وسيتم ارسال اشعار لكل الاعضاء على بريدهم الالكترونى لإعلامهم بان تم تطوير المنتدى

منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له



أيها الاخوة الفضلاء

حماة الدين

وحراس الملة

أيها الغيورين على العقيدة

يامن أتعبتكم خطب المناسبات وآلمكم التكرار

وأضناكم فقر الخطيب العلمى

وأوجعتكم لغته الركيكة الضعيفة

فإيمانا منا بأهمية خطبة الجمعة وأثرها فى النفوس

فقد خطر لى خاطر أن ندون الخطب الهادفة فى منتدانا الجميل

لعلها تكون زادا لمن لا زاد له

تقوم فكرة هذا الموضوع إن شاء الله على تجميع خطب الجمعة

التى تروق لكل عضو ويشارك بها بدون حذف أو إضافة

مع وضع اسم الخطيب الذى أدى هذه الخطبة وعنوان الخطبة

أتمنى أن تعجبكم هذه الفكرة

ولتكن البداية مع الخطيب البارع الالمعى فضيلة الدكتور الشيخ

سعود الشريم-إمام الحرم المكى-

وكانت بعنوان

(الانسان بين العبودية والطغيان)




ملخص الخطبة

1- الغاية من خلق الكائنات. 2- السبيل إلى تحقيق العبودية لله تعالى. 3- جماع العبودية. 4- ذم الغفلة عن الآيات الكونية. 5- طغيان الإنسان. 6- تسخير الله تعالى المخلوقات للإنسان. 7- صور من عظم عصيان بني آدم. 8- التحذير من العلمنة والتغريب. 9- عبودية الجمادات والحيوانات والنباتات. 10- قصة الذئب الذي تكلّم. 11- التذكير بالتفريط والتقصير.

الخطبة الأولى

مقدمة :

(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً )) [الكهف:1 ، 2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كرّم بني آدم وحملهم في البر والبحر وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيّه وخليله وخيرته من خلقه، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى والخلوة والجلوة، فـإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَىْء فِي ٱلأرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء هُوَ ٱلَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي ٱلأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ [آل عمران:5، 6].

عباد الله، إن الباريَ سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه خلق هذا الكون عُلويَّه وسفليّه ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو. كلُّ ذلك لأجل أمرٍ واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه. ومن ثمَّ فإن تحقيق العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانَه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، ليكون الدين لله والحكم لله والدعوة إلى الله. كلُّ ذلك يقوم به من جعلهم الله مستخلَفين في الأرض مستعمَلين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني الإنسان من بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح على حدٍّ سواء. كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه وتعالى. فأكملُ الخلق عبودية لله هو أكملهم له ذلاً وانقيادًا وطاعةً، إذ هذه هي الذلة لله ولعزّته وقهره وربوبيته وإحسانه وإنعامه على ابن آدم.

وجماع العبودية ـ عباد الله ـ أنها هي الدين، فالدين عند الله الإسلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [آل عمران:85]، وهذا هو سرّ خلق الله للخلق، وغايةُ إيجاده لهم على هذه البسيطة، وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].

أيها المسلمون، يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء [الأعراف:185]، ويقول عائبًا فئة من البشر غافلةً ساهية لم تأخذ العبرة والعظة مما تشاهده ليلاً ونهارًا في أنحاء هذا الكون المعمورة: وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:105، 106].

فيا سبحان الله، أفلا يرون الكواكب الزاهرات والأفلاك الدائرات والجميع بأمره مسخرات؟! وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحارٍ زاخرات وأمواج متلاطمات وقفازٍ شاسعات، ثم هم يجعلون لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات، فسبحان الواحد الأحد خالق جميع المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل يجعل العجب يأخذ من نفسه كلَّ مأخذ حينما يرى أمرَ هذا الكائن البشري وهو ينكص على عقبيه ويولِّي الدّبر، منصرفًا عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى والفاني عن الباقي، يتقلَّب بين الملذات والشهوات، ملتحفًا بأكنافها بعد أن أكرمه الله وكرّمه وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنة، وبعد أن خلقه وصوّره وشقَّ سمعه وبصره، وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر الإنسان، ويجادل الإنسان، فيقول الله عنه: إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، قُتِلَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]، وَكَانَ ٱلإنْسَـٰنُ قَتُورًا [الإسراء:100]، وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً [الكهف:54]، كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ [العلق:6، 7]، بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَـٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5]، إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ [العصر:2].

وقد كان الأجدر بهذا الإنسان وقد أكرمه الله ونعّمه أن يكون عابدًا لا غافلاً، طائعًا لا عاصيًا، مقبلاً إلى ربه لا مدبرًا، شكورًا لا كفورًا، محسنا لا ظالمًا.

إن المتأمِّل في كثير من المخلوقات في هذا العالم المشهود ليرى أنها لم تُعطَ من العناية والرعاية والعمارة والاستخلاف كما أُعطي الإنسان، ولا كُلِّفت كتكليف ابن آدم، بل جعلها الله خادمة مسخرةً له، هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، بل حتى الملائكة سخرها الله لابن آدم، فجعل منهم الكتبةَ عليهم والدافعين عنهم من معقّبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله، ومنهم المسخَّرين لإرسال الريح والمطر، كما جعل الله من أكبر وظائفهم الاستغفار لبني آدم، وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلأَرْضِ [الشورى:5].

ومع ذلك ـ عباد الله ـ فإن هذه المخلوقات عدا ابن آدم قد كمُلت في عبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته وألوهيته، إلا بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن وبعض الدواب كالوزغ والذي قال عنه النبي : ((اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم)) رواه أحمد[1].

غير أن أولئك مع عصيانهم إلا أنهم لا يبلغون مبلغَ عصيان بعض بني آدم، وما ذاك إلا لأنه قد وُجد في بني آدم من يقول: أنا ربكم الأعلى، ووُجد فيهم من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، ووُجد فيهم من يقول: أنا أحيي وأميت، ووُجد من يقول: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، ووُجد فيهم من يقول عن القرآن: إنْ هذا إلا قول البشر، ومن يقول: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، ناهيكم ـ عباد الله ـ عمن يقول: يد الله مغلولة، ومن يجعل الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، فكيف إذًا بمن يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء.

وهكذا ـ عباد الله ـ تمتدّ حبال الطغيان والجبروت في بني الإنسان إلى أن يخرج من يقول: إن الشريعة الإسلامية غيرُ صالحة لكل زمان ومكان، أو من يقول بفصل الدين عن الدولة، فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أو من يقول: الدين لله والوطن للجميع، أو من يقول: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو من يصف الدين بالرجعية، والحدود والتعزيرات بالهمجية والغلظة، أو أن يصفه بالمقيِّد للمرأة والظالم لها والمحجِّر على هويَّتها، أو من يرى حريتَها وفكاكها من أسرها إنما يتمثَّل في خروجها من حدود ربها، وإعلان عصيانها لشريعة خالقها ومولاها، وجعلِها نهبًا لكل سارق وإناءً لكل والغ ولقيطًا لكل لاقط، جسدًا للإغراء والمتاجرة، وحُبَّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا.

هذه هي بعض مقولات بني الإنسان، فهل من التِفاتةٍ ناضجةٍ إلى مواقف إبليس اللعين في كتاب ربنا لتروا: هل تجدونه قال شيئًا من ذلك غير أنه وعد بالغواية؟! بل إن غاية أمره أنه فضّل جنسه على جنس آدم، فاستكبر عن السجود لمن خُلق طينًا، بل إنه قد قال لبعض البشر: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.

فلله ما أعظمَ عصيان بني آدم، وما أشد استكبارَه ومكره السيئ، وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

ويؤكد الباري جل شأنه حقيقةَ عصيان بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات واستنكافَهم أن يكونوا عبيدا لله الذي خلقهم وفطرهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن فِى ٱلأرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [الحج:18]، فدل على أن أكثر بني آدم عصاةٌ مستكبرون ضالون، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ [الأنعام:116]، وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ [سبأ:13]، وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

أيها المسلمون، من أجل أن نصل وإياكم إلى غايةٍ واحدة، وهي استشعار عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، وأن منا مفرّطين ومستنكفين، وأن من أطاع الله بشيء من العمل أخذه الإعجاب بنفسه كلَّ مأخذ، وأقنع نفسه ومجتمعَه بأنه يعيش أجواءَ الأمن والأمان والاستقامة والهداية وأنه أدى ما عليه، فليس هناك دواعٍ معقولةٌ للتصحيح والارتقاء بالنفس إلى البُلغة المرجوَّة، إنه لأجل أن نعلم ذلك، ولأجل أن نزدري عملَنا مهما كان صالحًا في مقابل أعمال المخلوقات الأخرى من جمادٍ ونباتات وحيوان، فإن من المستحسن هنا أن نسلط الحديث على بعض أمثلة متنوعة لمخلوقات الله سبحانه، لنبرهن من خلالها الهُوَّةَ السحيقة بيننا وبينهم في كمال العبودية لله والطاعة المطلقة له.

فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما أودعه الباري سبحانه بعض الجمادات من الغيرة على دينه والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله سبحانه، ففي الحديث أن النبي مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريحٌ ومستَراحٌ منه))، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ قال: ((إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)) رواه البخاري[2].

انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلانٍ لمعصية الله تعالى، والتي لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب.

وفي مقابل ذلك فإن بعض الدواب تفرح بالتديُّن، وتشعر بأثره في ابن آدم، وببركته على وجه الأرض، ولذلك فهي تدعو له، وتصلي عليه، وتستغفر له، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي قال: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلُّون على معِلّم الناس الخير))[3].

بل إن الدواب جميعًا لتشفِق من يوم القيامة وتفرَق من قيام الساعة خوفًا من هولها وعرصاتها، فقد قال النبي : ((ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشيةَ أن تقوم الساعة)) رواه أحمد[4]. والمصيخة هي المنصتة.

ولقد ورد أيضًا ما يدل على عبودية الديك لله ودعوتِه للخير والفلاح، فقد قال النبي : ((لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة)) رواه أحمد وأبو داود[5].

وقد روى الإمام أحمد عن النبي أنه قال: ((إنه ليس من فرسٍ عربيٍّ إلا يؤذَن له مع كل فجر يدعو بدعوةٍ يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من ابن آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه))، فيقول : ((إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته)) رواه أحمد[6].

وأما النمل ـ يا رعاكم الله ـ فتلك أمةٌ من الأمم المسبحة لله سبحانه، مع صغر خلقتِها وهوان حالها وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله عنها: حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].

هذه النملة يقول النبي عنها: ((قرصت نملةٌ نبيًا من الأنبياء، فأمر بقريةِ النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصتك نملة أحرقتَ أمةً من الأمم تسبِّح لله؟!)) رواه البخاري[7].

وأما الشجر وهو من النبات عباد الله، فقد قال الله عنه: وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]، وروى ابن ماجه عن النبي أنه قال: ((ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا))[8].

وأما ولاءُ الحجر والشجر للمؤمنين ونصرتُه لدين الله حينما يستنطقه خالقه فيُنبئ عن عمق عبوديته لربه وغيرته على دينه، فإن رسول الله قد قال عنه: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله)) رواه البخاري[9].

فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه المخلوقات الآنفة، إضافةً إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشع له، وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وخالقها إذ عرضَ عليها الأمانةَ فأشفقت من حملها، وكيف أنه تدكْدك الجبل لما تجلى ربنا لموسى عليه السلام، فهذه هي حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتُها وخشيتها وتدكدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لتصدعت من خشية الله.

فيا عجبا من مضغةِ لحم أقسى من صخر صلب، تسمعُ آيات الله تتلى عليها ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها، كأن في أذنيها وقرًا، فهي لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو عظها لقمان أو تليت عليها آيات القرآن، ولكن صدق الله: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ [الحج:46].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.




الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.

أما بعد: فيا أيها الناس، تكلّم ذئبٌ كلامًا عجيبًا إبانَ حياة النبي ، كلاما يفيد بأن الذئب يؤمن بأن الرزق من عند الله، بل قد أمر هذا الذئب راعيَ الغنم بتقوى الله سبحانه، إضافةً إلى علم هذا الذئب بنبوة محمد ورسالته.

فلقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدا ذئبٌ على شاة فأخذها، فطلب الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي، ذئبٌ مقعٍ على ذنبه يكلمني كلامَ الناس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجبَ من ذلك؟! محمدٌ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق... الحديث[1]. وفي رواية للبخاري: فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال : ((فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر))[2].

فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروه حقَّ قدره، واستشعروا أثرَ عبودية الجماد والنبات والحيوان، وكمالها لله تعالى، وهي أقل منكم فضلاً وتكريمًا.

واعلموا أنكم مقصِّرون مهما بلغتم، وظالمون لأنفسكم مهما ادعيتم القصدَ أو الكمال، فإن بُعد البشر عن المعرفة الحقيقية، وضعفَ يقينهم بالآمر الناهي، وغلبةَ شهواتهم مع الغفلة، تلك كلها تحتاج إلى جهاد أعظمَ من جهاد غيرهم من المخلوقات الطائعة المسبِّحة لله تعالى.

يصبح أحدنا وخطابُ الشرع يقول له: استقم في عبادتك، واحذر من معصيتك، وتنبَّه في كسبك، وقد قيل قبلُ للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرةَ فؤادك بكفِّك، ثم قم إلى المنجنيق لتُرمى في النار، ويقال للغضبان: اكظم، وللبصير: اغضض، ولذي القول: اصمت، ولمستلِذِّ النوم: تهجّد، ولمن مات حبيبه: اصبر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحلُّ لك أن تفرّ، وإذا وقع بك مرض فلا تشْكُ لغير الله.

فاعرفوا ـ أيها المسلمون ـ شرفَ أقدار بني آدم بهذا الاستخلاف، وصُونوا هذا الجوهر بالعبودية الحقة عن تدنيسها بشؤم الذنوب ولؤم التفريط في الطاعة، واحذروا أن تحطَّكم الذنوب إلى حضيض أوهد، فتخطفكم الطير أو تهوي بكم الريح في مكان سحيق. ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ [الحج:32].

والعجب ـ يا عباد الله ـ ليس من مخلوقاتٍ ذُلِّل لها الطريق فلا تعرف إلا الله، ولا من الماء إذا جرى، أو من منحدِر يُسرع، ولكن العجب من متصاعِد يشقُّ الطريق شقا، ويغالب العقبات معالجة، ويتكفّأ الريح إقبالاً، ولا عجب فيمن هلك: كيف هلك؟ ولكن العجب فيمن نجا: كيف نجا؟ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

والعبد كلما ذل لله وعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقربَ له، وأعزَّ وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، يقول النبي : ((قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)) رواه ابن ماجه[3].

هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عز من قائل عليم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
 
موضوع رائع

يا محمد صدقى الابراشى

موضوعكم نال أعجابنا وشكرا لكم على الطرح

نأمل منكم المزيد

جزاكم الله خيرا



سعدنا بتواجدكم
لا تحرمونا من هذه المشاركات الجميلة
والمواضيع الهادفة

سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك


====================
ملحوظة : هذا رد آلي على الموضوع
 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان

تربية الضمير



الحمد لله الذي أصلحَ الضمائرَ، ونقّى السرائرَ، فهدى القلبَ الحائرَ إلى طريقِ أولي البصائرِ، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبينا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، أنقى العالمينَ سريرةً وأزكاهم سيرةً، ( وعلى آله وصحبِه ومَنْ سارَ على هديهِ إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: اقتضتْ حكمةُ اللهِ تعالى أَنْ يَخلقَ الإنسانَ من عَدَمٍ في أكملِ صورةٍ وأَتَمِّ خِلْقَةٍ، ولذا خاطبَه بقولِه في محكمِ آياتِه: (( يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك))(1)، وشاءتْ إرادةُ اللهِ أن يخلقَ للإنسانِ ما يتلائمُ مع ظرفِه، وينسجمُ مع حياتِه، ويتماشى مع طبيعتِه؛ فكانتِ المخلوقاتُ مِنْ حولِه أنيسَه ومَطْعَمَه، والأرضُ مِهَادَه، والسماءُ لِحافَه، والليلُ والنهارُ زمانَه، ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (2)، ومع تكاملِ مادَّةِ الحياةِ اسْتَوْدعَ الحقُّ سبحانَه في قلبِ الإنسانِ ما يَسْتَوجِبُ الموائَمَةَ مع مَنْ حولَه ويصلحُ لهذا التكاملِ؛ فكانتِ الغريزةُ والفطرةُ والضميرُ؛ إذ بالغريزةِ يَحفظُ نوعَه بما يكفلُ استمرارَه وبقاءَه ((فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً))(3)، وبفطرتِه يهتدي إلى التوحيدِ ويستجيبُ لبواعثِ الإيمانِ ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))(4)، وبالضميرِ الحيِّ اليقظِ يندفعُ نحوَ الطريقِ القويمِ والعملِ الراشدِ (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) (5) .
عبادَ اللهِ :
إنَّ الضميرَ هو مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ، والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها، وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ، كما قالَ الحقُّ سبحانه: (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)) (6)، والضميرُ هو الرادعُ عنِ المعاصي والآثامِ الذي يُجَنّبُكَ مقاربتَها ويُثنيكَ عن تكرارِها؛ فقد وصَفَ اللهُ عبادَه المتقينَ فقالَ: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (7) ، ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ -عليه السلامُ- حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال: (( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) (8) ، فأكرمْ بهِ وبسلسلتِه الشريفةِ. إنَّ الضميرَ يُنجي صاحِبَه منَ المهالكِ، ويُبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ومن صفاتِ الضميرِ المؤمنِ أَنّ صاحِبَه دائمُ التذكّرِ فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ، وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ، يقولُ اللهُ تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))(9)، ولذلك وُصِفَ الضميرُ الصالحُ بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛ فكانت نفسُه لوَّامةً، ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ نفسُه أمَّارةً.
عبادَ اللهِ :
يتأثَّرُ الضميرُ الإنسانيُّ بما تتأثرُ به النفسُ؛ فيتضائلُ ويقلُّ قدرُه ويخبو نورُه إذا انجرفت النفسُ وراءَ وساوسِها ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))(10)، واتبعَت همزاتِ الشياطينِ وإغواءَهم (( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )) (11) ، وانساقتْ وراءَ ضلالتِها ((فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا))(12)، وكانت رَهْنَ هواها ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)) (13) ، فاختلَّ ضميرُها وضعُفَتْ قوّتُه وصارَ الإنسانُ عبداً لشهواتِه يَرَى الباطلَ حقَّا والشرَّ خيرا، لا يردعُهُ رادعٌ ولا يحجُزُه حاجزٌ، ولذلكَ قيلَ: "مَنْ توهَّمَ أنَّ لهُ عدواً أعدى من نفسِهِ قلَّتْ مَعْرِفَتُه بنفسِه"، وقد يسمو الضميرُ -عبادَ اللهِ- ويعلو قدرُه ويزيدُ ضياؤُه إذا خالفتْ نفسُهُ هواها فيما لا ينفعُها، يقولُ الحقُّ سبحانه: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))(14)، وصارَعَتْ وسوسَةَ شياطينِ الجنِ والأنسِ ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ))(15)، وانكبَّتْ على الباقياتِ الصالحاتِ ((قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)) (16) ، حينَها يقوى الضميرُ وتُضَاءُ جنباتُ النفسِ وتَخْصُبُ أرضُهَا؛ فيكونُ مِنْ ثمرِهَا صدقُ صاحِبِها وأمانَتُه، ومروَءتُه وإخلاصُه وعِفَّتُه، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(17).
فاتقوا اللهَ –عبادَ اللهِ-، وأصلحوا نفوسَكم تحيا ضمائرُكم، وتُختَم بالصالحاتِ أعمالُكم.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.



الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إن الضميرَ كالطفلِ فما دُمْتَ تُغَذِّيه بالغذاءِ الصالحِ ينمو ويقوَى، أما إذا أهملْتَه فإنه يَضْمرُ ويَضْعُفُ، وضمورُه دمارٌ لصاحبِه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بغيابِه يزولُ الرقيبُ الذي يوجِّهُك إلى الخيرِ ويدفعُك إلى البرِّ ويُقْصِرُ خطاكَ عن الشرِّ ويَحْمِيكَ من ضَلالِ النفسِ. ونموُّ الضميرِ يكونُ بالدوامِ على الأعمالِ الصالحةِ وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ في نفسِكَ ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))(18)، كما ينمو الضميرُ ويترَبَّى مِنْ خلالِ ترطيبِ اللسانِ بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ والضميرُ يَقِظاً في كلِّ حالٍ (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي))(19).
فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّكم مُقبلون على عامِكمُ الهجريِّ الجديدِ؛ فاستقبلوه بضمائِرَ نقيّةٍ وقلوبٍ صافيةٍ وعقولٍ واعيةٍ وأَنْفُسٍ زَكِيَّة، ورَبُّوا ضمائرَكم على عَمَلِ الخيرِ والبعدِ عن كلِّ أذىً وشَرٍّ؛ فبذلكَ تأنسُونَ بِقُرْبِ ضَمِيرِكم منكم، وصُحْبَتِهِ مَعَكم.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (20).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ))

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان

تربية الضمير



الحمد لله الذي أصلحَ الضمائرَ، ونقّى السرائرَ، فهدى القلبَ الحائرَ إلى طريقِ أولي البصائرِ، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبينا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، أنقى العالمينَ سريرةً وأزكاهم سيرةً، ( وعلى آله وصحبِه ومَنْ سارَ على هديهِ إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: اقتضتْ حكمةُ اللهِ تعالى أَنْ يَخلقَ الإنسانَ من عَدَمٍ في أكملِ صورةٍ وأَتَمِّ خِلْقَةٍ، ولذا خاطبَه بقولِه في محكمِ آياتِه: (( يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك))(1)، وشاءتْ إرادةُ اللهِ أن يخلقَ للإنسانِ ما يتلائمُ مع ظرفِه، وينسجمُ مع حياتِه، ويتماشى مع طبيعتِه؛ فكانتِ المخلوقاتُ مِنْ حولِه أنيسَه ومَطْعَمَه، والأرضُ مِهَادَه، والسماءُ لِحافَه، والليلُ والنهارُ زمانَه، ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (2)، ومع تكاملِ مادَّةِ الحياةِ اسْتَوْدعَ الحقُّ سبحانَه في قلبِ الإنسانِ ما يَسْتَوجِبُ الموائَمَةَ مع مَنْ حولَه ويصلحُ لهذا التكاملِ؛ فكانتِ الغريزةُ والفطرةُ والضميرُ؛ إذ بالغريزةِ يَحفظُ نوعَه بما يكفلُ استمرارَه وبقاءَه ((فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً))(3)، وبفطرتِه يهتدي إلى التوحيدِ ويستجيبُ لبواعثِ الإيمانِ ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))(4)، وبالضميرِ الحيِّ اليقظِ يندفعُ نحوَ الطريقِ القويمِ والعملِ الراشدِ (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) (5) .
عبادَ اللهِ :
إنَّ الضميرَ هو مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ، والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها، وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ، كما قالَ الحقُّ سبحانه: (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)) (6)، والضميرُ هو الرادعُ عنِ المعاصي والآثامِ الذي يُجَنّبُكَ مقاربتَها ويُثنيكَ عن تكرارِها؛ فقد وصَفَ اللهُ عبادَه المتقينَ فقالَ: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (7) ، ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ -عليه السلامُ- حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال: (( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) (8) ، فأكرمْ بهِ وبسلسلتِه الشريفةِ. إنَّ الضميرَ يُنجي صاحِبَه منَ المهالكِ، ويُبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ومن صفاتِ الضميرِ المؤمنِ أَنّ صاحِبَه دائمُ التذكّرِ فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ، وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ، يقولُ اللهُ تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))(9)، ولذلك وُصِفَ الضميرُ الصالحُ بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛ فكانت نفسُه لوَّامةً، ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ نفسُه أمَّارةً.
عبادَ اللهِ :
يتأثَّرُ الضميرُ الإنسانيُّ بما تتأثرُ به النفسُ؛ فيتضائلُ ويقلُّ قدرُه ويخبو نورُه إذا انجرفت النفسُ وراءَ وساوسِها ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))(10)، واتبعَت همزاتِ الشياطينِ وإغواءَهم (( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )) (11) ، وانساقتْ وراءَ ضلالتِها ((فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا))(12)، وكانت رَهْنَ هواها ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)) (13) ، فاختلَّ ضميرُها وضعُفَتْ قوّتُه وصارَ الإنسانُ عبداً لشهواتِه يَرَى الباطلَ حقَّا والشرَّ خيرا، لا يردعُهُ رادعٌ ولا يحجُزُه حاجزٌ، ولذلكَ قيلَ: "مَنْ توهَّمَ أنَّ لهُ عدواً أعدى من نفسِهِ قلَّتْ مَعْرِفَتُه بنفسِه"، وقد يسمو الضميرُ -عبادَ اللهِ- ويعلو قدرُه ويزيدُ ضياؤُه إذا خالفتْ نفسُهُ هواها فيما لا ينفعُها، يقولُ الحقُّ سبحانه: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))(14)، وصارَعَتْ وسوسَةَ شياطينِ الجنِ والأنسِ ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ))(15)، وانكبَّتْ على الباقياتِ الصالحاتِ ((قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)) (16) ، حينَها يقوى الضميرُ وتُضَاءُ جنباتُ النفسِ وتَخْصُبُ أرضُهَا؛ فيكونُ مِنْ ثمرِهَا صدقُ صاحِبِها وأمانَتُه، ومروَءتُه وإخلاصُه وعِفَّتُه، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(17).
فاتقوا اللهَ –عبادَ اللهِ-، وأصلحوا نفوسَكم تحيا ضمائرُكم، وتُختَم بالصالحاتِ أعمالُكم.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.



الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إن الضميرَ كالطفلِ فما دُمْتَ تُغَذِّيه بالغذاءِ الصالحِ ينمو ويقوَى، أما إذا أهملْتَه فإنه يَضْمرُ ويَضْعُفُ، وضمورُه دمارٌ لصاحبِه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بغيابِه يزولُ الرقيبُ الذي يوجِّهُك إلى الخيرِ ويدفعُك إلى البرِّ ويُقْصِرُ خطاكَ عن الشرِّ ويَحْمِيكَ من ضَلالِ النفسِ. ونموُّ الضميرِ يكونُ بالدوامِ على الأعمالِ الصالحةِ وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ في نفسِكَ ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))(18)، كما ينمو الضميرُ ويترَبَّى مِنْ خلالِ ترطيبِ اللسانِ بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ والضميرُ يَقِظاً في كلِّ حالٍ (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي))(19).
فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّكم مُقبلون على عامِكمُ الهجريِّ الجديدِ؛ فاستقبلوه بضمائِرَ نقيّةٍ وقلوبٍ صافيةٍ وعقولٍ واعيةٍ وأَنْفُسٍ زَكِيَّة، ورَبُّوا ضمائرَكم على عَمَلِ الخيرِ والبعدِ عن كلِّ أذىً وشَرٍّ؛ فبذلكَ تأنسُونَ بِقُرْبِ ضَمِيرِكم منكم، وصُحْبَتِهِ مَعَكم.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (20).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ))

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



السلاح المهجور........

لفضيلة الشيخ صالح آل طالب -إمام الحرم المكى

بعد خطبة الحاجة قال

أمّا بعد: فوصيّة الله للأوّلين والآخرين تقواه، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) [النساء:131].


أيّها المسلمون، اتّقوا الله تعالى وراقِبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تَعصوه، فإن المعاصيَ والذنوبَ جِراحات، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقتَل.


واعلم ـ غفر الله لي ولك ـ أنَّ لك ربًّا أنتَ مُلاقيه، وبيتاً أنتَ ساكنُه، فاسترضِ ربَّك قبل لقائِه، واعمُر بيتَك قبلَ انتقالِك إليه.


وبعد: أمَّةَ الإسلام، أمَّةَ الحِكمة والقرآن، أمَّة الهدي الإلهي والسَّنَن المحمَّدي، أمَّتِي، لا زِلنا نتراءَى صلاحَك فنجدُك بعدُ لم ترشُدِي، ويمُدّ إليكِ محبّوكِ حبالَ النجاةِ فلا تتمسّكين، ويُضيء لكِ ناصحوك الشموعَ فلا تُبصِرين ولا تتبصَّرين، تُمسِينَ وتُصبِحِين على فواجعَ وحروبٍ ومواجع وكروبٍ ثمّ لا تتوبين ولا تتذكَّرين.


أيّها المسلمون، أيّها الذين هم بربّهم يؤمنون ويثِقون، إنّ ما حلَّ ويحِلّ بالأمّة من رزايا وبلايا لهي سياطٌ تسوقُهم إلى حظيرة الإيمان والتوحيد، وتُسلِمهم إلى التعلّق بالعزيز الحميد، وتدفَع بهم إلى التّوبة وخوفِ يومِ الوعيد، (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126]، ولكنّها الغفلة.


لقد أثّرتِ المادّة على كثيرٍ من النفوس، وطغت على حياتِها، وضاق أفقُها فأصبَحت لا تُبصِر إلا ما تَرى أحداقُها، وأظلمَت قلوبٌ فأضحَت لا تستوعِب إلا مَا يلامِس أبدانَها. وحين ابتعَد الإنسان عن نورِ الوحي وتاه بصرُه عن التطلّع للسّمَاء وضعُفتِ الصلةُ بالله عندَ ذلك استوحَشتِ النفوس، وقستِ القلوب، وطغَت موجاتٌ من الهلَع والاضطِراب، وظهَر الخوفُ من المستقبَل وعلى المستقبَل، وبدتِ الحَيرَة، وما ذاك إلاّ لذهولِهم عن سببِ حياة القلوبِ وصلاح النفوس، ونسُوا أنَّ فوق تدبيرهم لله تدبيرًا، وله من وراءِ أسبابهم أمرًا وتأثيرًا، والله تعالى خالقُ النفوسِ وعالمٌ بأسباب زكائِها، ومبدعُ القلوبِ وشارعٌ أسبابَ حياتِها، وليستِ الحياة بقوّة الجسمِ أو التزوّد من عرَض الدنيا، بل الحياة حياةُ القلوب، (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا) [الأنعام:122].


لذا كان الإيمانُ بالله سببَ الأمنِ والأمان، الإيمان يجعل الخوفَ من الله وحدَه والأمان ممَّا سواه، (الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) [الأحزاب:39]. ولهذا أيضاً كانتِ الصدور الجوفاءُ من الإيمان البعيدة من الله مليئةً بالخوفِ والهلَع والجزَع والاضطراب والحَيرة.


أيّها المسلمون، وإذا امتلأ القلبُ إيمانًا عرَف صاحبُه ملجَأه ودواءَه ومفزعَه وشِفاءه. إنَّ الحياة قد طُبعَت على كدَر، وقلّما يسلَم الإنسان من خطَر، مصائبُ وأمراض، حوادثُ وأعرَاض، أحزَان وحروبٌ وفتَن، ظلمٌ وبغي، همُوم وغموم، فقرٌ وحَيرة، أسبابٌ تقصم الظهور وتنحِت الصّدور، إلا أنَّ الله تعالى لطيفٌ بعباده رحيم بخلقِه، فتح لهم بابًا يتنفّسون منه الرّحمة، ويزيلون به كدَر الحياة، وتنزِل به على قلوبِهم السكينةُ والطمأنينة، ألا وهو باب الدّعاء.


دعاءُ اللهِ وسؤاله والتضرعُ إليه والانطراح بين يدَيه وتفويض الأمر إليه أمانُ الخائفين وملجَأ المضطرِّين وسلوة المناجين، من الذي لاذَ بجنابِه فما عزَّ؟! ومن الذي فوّضَ أمرَه إليه فما رشد؟! ((الدعاء هو العبادة)، (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر:60].


كرمُ الباري عظيم، وإحسانُه سبحانَه عميم، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].



والدّعاء أكرمُ شيءٍ على الله، وهو طريقٌ إلى الصّبر في سبيل الله، وصدقٌ في اللّجَأ وتفويض الأمر إليه والتوكّل عليه، وبعدٌ عن العجزِ والكسل، وتنعُّمٌ بلذّة المناجاة، فيزدادُ إيمان الداعي ويقوى يقينُه، ويبقى متّصلاً بربّه، وهو عبادةٌ سهلة ميسورَة، تصلح أصلاً في كلِّ زمان ومكانٍ وحال.



الدعاءُ رافع للبلاء دافعٌ للشقاء، قال إبراهيم عليه السلام كما في محكَم التنزيل: (وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا) [مريم:48]، وقال الله سبحانه عن نبيِّه زكريّا عليه السلام: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً) مريم:4. فكم من بليّة ومحنةٍ رفعها الله بالدّعاء، ومصيبة كشفَها الله بالدّعاء، وكم من ذَنب ومعصيةٍ غفرَها الله بالدّعاء، وكم من رحمة ونعمةٍ ظاهرة وباطنةٍ استُجلِبت بسبَب الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُغني حذَر من قدَر، والدعاءُ ينفَع ممّا نزل وممّا لم ينزِل، وإنَّ البلاء لينزل فيلقاه الدّعاء، فيعْتلِجان إلى يومِ القيامة)) رواه الحاكم والطبراني بسند حسن، وله شاهد عند أحمد.


الدعاء قربةُ الأنبياء، (إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، لا يهلِك مع الدّعاءِ أحد، ولا يخيب من للهِ رجا وقصَد، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحِم إلا أعطاه الله بِها إحدى ثلاث: إمّا أن يعجِّل له دعوتَه، وإمّا أن يدَّخر له، وإمّا أن يكشِف عنه من السوء بمثلَها))، قالوا: إذا نُكثر؟! قال: ((اللهُ أكثَر)) رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.


ولمَّا دعا إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى للنار: (كُونِى بَرْداً وَسَلَـامَا عَلَى ابْراهِيمَ) [الأنبياء:69]، (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء:76]، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ) [الأنبياء:83، 84]، ولمّا نادى ذو النّون في الظلمات جاء الجوابُ من فوقِ السموات فقال الله جل في علاه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِـى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88]، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء:89، 90]، وقد ذكَر الله تعالى رحمتَه بزكريّا إذ نادى ربَّه نداء خفياً، فلم يكن بدعاءِ ربّه شقياً، وفي كتابِ الله تعالى أكثرُ من ثلاثمائة آية عن الدعاء.


فيَا من تكالبَت عليه الهموم والغموم، وضاقت عليه الأرضُ بما رحُبت، أينَ أنت من سؤال الله، أينَ أنتَ من سؤال الله ورجائه؟! ويا مَن أرهقته الأمراضُ وأغرقته الديون، أين أنتَ مِن دعاءِ الغنيّ الكريم؟! ويا مَن أثقلته المعاصي والذنوب، أينَ أنتَ مِن غافرِ الذنب وقابل التّوب؟! ويا مَن غشيَه الخوف والقلق، تطلّعْ إلى السّماء فعند الله الفرَج.
هذا هو الدّعاء، فأين السائلون؟! وهذا هو الطريق، فأين السالكون؟!


أمّة الإسلام، لقد مرّ على الأمّة أزمات ومضائقُ وابتلاآت ومآزق، فكان اللجَأ إلى الله هو سبيل النجاة، والله تعالى يبتلي الناسَ لترِقَّ قلوبهم ويلجؤوا إليه بصدقٍ وتضرّع، قال الله تعالى لرسوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام:42، 43]. ولقد كان بعض المشركين الأوائل إذا نابَتهم النوائبُ واشتدَّ عليهم الخطب عرفوا أيَّ بابٍ يطرقون، وأين يلجؤون ويُهرَعون، فدعَوا اللهَ مخلِصين له الدّين، وهذه أمّة الإسلام اليومَ أحوجُ ما تكون إلى ربِّها ولطفِه ونصره وعطفِه، فما الذي تغيَّر من حالِها؟! أينَ الرجوع إلى الله؟! أين سؤالُه ودعاؤه وقصده ورجاؤه؟!


أيّها المسلمون، إنَّ للدعاء شروطًا وآدابًا وأحكاما وأسبابًا، ينبغي للمسلم أن يتعلَّمها تأدُّباً مع ربِّه، وتقرّباً لإجابة دعائه وطلبِه، ومنها توحيدُ الله تعالى في الدّعاء في القصدِ والطلب والوسيلة، وهذا بابٌ عظيم جعل الدعاءَ هو العبادة، فكان واجباً أن يُخلَص لله تعالى، وأن يتوجّه العبدُ إليه سبحانَه بالدعاء والمسألة والطّلب والاستغاثة والاستعانَة والاستعاذة والاستِجارة والاستسقاءِ والاستنجادِ والاستغفار وطلَب النُّصرة وتحقيقِ المرغوبِ ودَفع المَرهوب وغُفران الذنوب وهداية القلوب وسدِّ الفاقات وسؤال قَضاء الحاجات ونَيل المَسرَّات وتفريج الكرباتِ وإغاثَة اللّهفات وإزالةِ الغمّة وشفاء المريض وأَمن الطريق والتثبيتِ عند السؤال والأمن يومَ الوعيد والنجاةِ من العذاب الشديد، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الدعاء والمسألةِ ممَّا لا يقدر عليه إلا الله تعالى جلباً لنفعٍ أو دَفعاً لضرّ، وهذا من خالِص حقّ الله سبحانه على العَبد، وهو توحيدٌ من العبد لربّه في الدّعاء؛ لأنَّ الله سبحانه لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، وهو وحدَه الذي يسمَع دعاءَ الداعين أينما كانوا، وبأيِّ لغةٍ تكلّموا، لا يشغله سمعٌ عن سمع، ولا يتبرّم بكثرةِ الداعين وإلحاحِ الملحّين، هو سبحانه الذي لا تشتبِه عليه الأصوات، ولا تختلِف عليه الحاجات، يعلمُ ما في الضمائر وما تنطوِي عليه السرائر، وهو سبحانَه الذي ينفَع ويضرّ على الحقيقة دون أحدٍ من الخلائق.


لِذا كان من الشرك دعاءُ الأموات والقبور والملائكة والجنّ وغيرهم، وسواء كان باسم الشفاعة أو الوسَاطة أو الوجاهة أو القُربة، بل أخبر الله تعالى أنَّ الدعاءَ هو الدين فقال جلّ شأنه: (هُوَ الْحَىُّ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) [غافر:65]، والآيات في الباب كثيرة. ومن تأمّل دعاءَ الأنبياء وجدَه بالتوحيد كدعاءِ الكرب الذي دعا به يونسُ عليه السلام، فإنَّه لم يتضمّن طلباً في الظاهر، وإنما كان توحيدًا خالصاً، (فَنَادَى فِى الظُّلُمَـاتِ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـانَكَ) [الأنبياء:87]، فاستجاب الله تعالى له بالتوحيد.


أيّها المسلمون، وممَّا ينبغي مراعاتُه في الدعاء بعدَ الإخلاص والمتابعة التضرّعُ والابتهال إلى الله تعالى والتملّق إليه بأسمائِه الحسنى وصفاته العلا، (وَللَّهِ الأسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، والاستغفار والإقرارُ بالذنب والاعتراف بالنّعم واستفتاحُ الدّعاء بالحمد والثناء على الله بما هو أهلُه والصلاة والسلامُ على خاتَم أنبيائه ورسله محمّد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يدعوَ بإثمٍ ولا قطيعة رحِم، ولا يعتديَ في الدّعاء، ولا يستعجِل، ولا يستبطئ الإجابة، ولا يقنُط، فإنَّ العبدَ يدعو ربًّا كريماً، ويكون الداعي مؤمناً موقناً راجياً مستقبلَ القبلة متطهّراً في هيئة حسنةٍ توقيراً لله تعالى، رافعاً يدَيه لله سبحانه جازماً في المسألة عازِماً ملِحًّا في الدّعاء متحيِّناً أوقاتَ الإجابة متحرّياً الأدعيةَ النبويّة متحَلِّلاً من المظالم مقدِّماً بين يدَي نجواه صدقة، فإنَّ مثل هذا لا يكاد يُردّ أبَداً، وإن تخلّفَ أثرُ الدعاء فليتَفقَّد الداعي نفسَه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيّها الناس، إنَّ الله طيِّب لا يقبَل إلا طيّباً، وإنَّ اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ وَاعْمَلُواْ صَـالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]، وقال: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ) [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجلَ يطيل السفَر، أشعَث أغبر يمدّ يدَيه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! رواه مسلم.


واستمِعوا ـ رحمكم الله ـ لهذا النّداء الإلهيّ من ربِّكم الذي يناديكم بقوله: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:55، 56].





الخطبة الثانية:


الحمد لله الواحِد القهّار، المتصرِّف في خلقه بما يشاء ويختَار، يقبضُ ويبسط، ويرفع ويخفِض، يجعل بعضَ خلقه لبعضٍ فتنة، وله في كلِّ تصريفٍ حكمَة، وفي كلِّ محنَة على المؤمن مِنحَة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، صلوات ربّي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.


أما بعد: أيّها المسلمون، مَن عامل الله تعالى بالتّقوى حالَ رخائِه عامله الله باللّطف والإعانة في حالِ شدَّته كما قال تعالى عن يونس عليه السلام لمَّا التقمَه الحوت: (فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143، 144]، أي: لولا ما تقدّم مِن العملِ الصّالح لبقي في بطنِ الحوتِ إلى يوم القيامة.


فاتَّقوا الله عبادَ الله، وادعُوه وألحّوا عليه في الطلَب، سيما في الأوقاتِ الحرِيَّة بالإجابة كيومِ الجمعة والثلُث الأخير من الليل وبينَ الأذان والإقامة وفي السّجود وغير ذلك ممَّا دلّت عليه السنَّة.


وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرشِ الكريم)) رواه البخاري ومسلم.


وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب أحداً قطّ همّ ولا حزنٌ فقال: اللهمَ إنّي عبدك ابنُ عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمّيت به نفسَك، أو علَّمتَه أحداً من خلقك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علم الغيبِ عندك، أن تجعلَ القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزني وذهابَ همي، إلا أذهبَ الله عزّ وجلّ همَّه وحزنه، وأبدله مكانَه فرَحاً))، فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلّمُها؟ فقال: ((بلى، ينبغِي لمَن سمعَها أن يتعلّمَها)) رواه أحمد والحاكم وابن حبان والطبرانيّ بسند صحيح.


فعليكم بالدّعاء والصّبر على البلاءِ والعودةِ إلى ربّ الأرض والسماء، مع اليقين بقدَر الله، وأنَّ الله تعالى لا يظلِم مثقالَ ذرة، وأنَّ ما يصيب الإنسانَ فبسبَب نفسه.


ثمَّ اعلموا ـ رعاكم الله ـ أنَّ الأمّة أحوجُ ما تكون إلى وحدة الصفّ ونبذِ الخلافات والاجتماع على المصير الواحِد والابتعاد عن الاجتهادات والتصرّفات الفرديّة عن جماعة المسلمين، فإنَّ الاختلاف والتنازعَ سببٌ للفشل كما قال الله عز وجل: (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ) [الأنفال:45، 46]، فقد أمرنا الله تعالى بطاعةِ الله ورسوله وعدمِ التنازع، وهو إشارةٌ إلى طاعة وليِّ الأمر، وإن حصل التنازع فالنتيجة الفشلُ وذهاب الريح، أي: ذهابُ القوة، وقيل: ذهابُ مهابة العدوّ لكم، (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ)، فالصبر واجبٌ مأمور به.


إنَّ الواجبَ على المسلمين اتباعُ توجيهات الكتاب والسنة، والواجبُ على العلماء والمسلمين توجيه الناسِ وإرشادُهم لما ينفعهم ويكشِف كربتَهم ويصلح حالهم، بتذكيرهم بالعودَة إلى الله، ومحاسبَة النفس واللجوءِ إلى الله ودعائه والإقبال عليه والطمأنينةِ به والاجتماع وعدَم الفرقة والنّزاع والائتلاف وتَرك الخلاف والإرجاف وردّ الأمور إلى ولاتِها والحذَر من إشاعة البلبَلة والقلاقِل ممّا يهدِّد مصالحَ الجماعة، ويؤدّي لاضطراب الأحوالِ وانتشار الخوف وقتل المعنويَّات، فإنَّ خلافَ ذلك إثم واعتداءٌ على الأمة، قال الله تعالى محذّراً: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].


ثمّ اعلموا أنَّ الله تعالى أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].


اللهمّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



السلاح المهجور........

لفضيلة الشيخ صالح آل طالب -إمام الحرم المكى

بعد خطبة الحاجة قال

أمّا بعد: فوصيّة الله للأوّلين والآخرين تقواه، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) [النساء:131].


أيّها المسلمون، اتّقوا الله تعالى وراقِبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تَعصوه، فإن المعاصيَ والذنوبَ جِراحات، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقتَل.


واعلم ـ غفر الله لي ولك ـ أنَّ لك ربًّا أنتَ مُلاقيه، وبيتاً أنتَ ساكنُه، فاسترضِ ربَّك قبل لقائِه، واعمُر بيتَك قبلَ انتقالِك إليه.


وبعد: أمَّةَ الإسلام، أمَّةَ الحِكمة والقرآن، أمَّة الهدي الإلهي والسَّنَن المحمَّدي، أمَّتِي، لا زِلنا نتراءَى صلاحَك فنجدُك بعدُ لم ترشُدِي، ويمُدّ إليكِ محبّوكِ حبالَ النجاةِ فلا تتمسّكين، ويُضيء لكِ ناصحوك الشموعَ فلا تُبصِرين ولا تتبصَّرين، تُمسِينَ وتُصبِحِين على فواجعَ وحروبٍ ومواجع وكروبٍ ثمّ لا تتوبين ولا تتذكَّرين.


أيّها المسلمون، أيّها الذين هم بربّهم يؤمنون ويثِقون، إنّ ما حلَّ ويحِلّ بالأمّة من رزايا وبلايا لهي سياطٌ تسوقُهم إلى حظيرة الإيمان والتوحيد، وتُسلِمهم إلى التعلّق بالعزيز الحميد، وتدفَع بهم إلى التّوبة وخوفِ يومِ الوعيد، (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126]، ولكنّها الغفلة.


لقد أثّرتِ المادّة على كثيرٍ من النفوس، وطغت على حياتِها، وضاق أفقُها فأصبَحت لا تُبصِر إلا ما تَرى أحداقُها، وأظلمَت قلوبٌ فأضحَت لا تستوعِب إلا مَا يلامِس أبدانَها. وحين ابتعَد الإنسان عن نورِ الوحي وتاه بصرُه عن التطلّع للسّمَاء وضعُفتِ الصلةُ بالله عندَ ذلك استوحَشتِ النفوس، وقستِ القلوب، وطغَت موجاتٌ من الهلَع والاضطِراب، وظهَر الخوفُ من المستقبَل وعلى المستقبَل، وبدتِ الحَيرَة، وما ذاك إلاّ لذهولِهم عن سببِ حياة القلوبِ وصلاح النفوس، ونسُوا أنَّ فوق تدبيرهم لله تدبيرًا، وله من وراءِ أسبابهم أمرًا وتأثيرًا، والله تعالى خالقُ النفوسِ وعالمٌ بأسباب زكائِها، ومبدعُ القلوبِ وشارعٌ أسبابَ حياتِها، وليستِ الحياة بقوّة الجسمِ أو التزوّد من عرَض الدنيا، بل الحياة حياةُ القلوب، (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا) [الأنعام:122].


لذا كان الإيمانُ بالله سببَ الأمنِ والأمان، الإيمان يجعل الخوفَ من الله وحدَه والأمان ممَّا سواه، (الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) [الأحزاب:39]. ولهذا أيضاً كانتِ الصدور الجوفاءُ من الإيمان البعيدة من الله مليئةً بالخوفِ والهلَع والجزَع والاضطراب والحَيرة.


أيّها المسلمون، وإذا امتلأ القلبُ إيمانًا عرَف صاحبُه ملجَأه ودواءَه ومفزعَه وشِفاءه. إنَّ الحياة قد طُبعَت على كدَر، وقلّما يسلَم الإنسان من خطَر، مصائبُ وأمراض، حوادثُ وأعرَاض، أحزَان وحروبٌ وفتَن، ظلمٌ وبغي، همُوم وغموم، فقرٌ وحَيرة، أسبابٌ تقصم الظهور وتنحِت الصّدور، إلا أنَّ الله تعالى لطيفٌ بعباده رحيم بخلقِه، فتح لهم بابًا يتنفّسون منه الرّحمة، ويزيلون به كدَر الحياة، وتنزِل به على قلوبِهم السكينةُ والطمأنينة، ألا وهو باب الدّعاء.


دعاءُ اللهِ وسؤاله والتضرعُ إليه والانطراح بين يدَيه وتفويض الأمر إليه أمانُ الخائفين وملجَأ المضطرِّين وسلوة المناجين، من الذي لاذَ بجنابِه فما عزَّ؟! ومن الذي فوّضَ أمرَه إليه فما رشد؟! ((الدعاء هو العبادة)، (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر:60].


كرمُ الباري عظيم، وإحسانُه سبحانَه عميم، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].



والدّعاء أكرمُ شيءٍ على الله، وهو طريقٌ إلى الصّبر في سبيل الله، وصدقٌ في اللّجَأ وتفويض الأمر إليه والتوكّل عليه، وبعدٌ عن العجزِ والكسل، وتنعُّمٌ بلذّة المناجاة، فيزدادُ إيمان الداعي ويقوى يقينُه، ويبقى متّصلاً بربّه، وهو عبادةٌ سهلة ميسورَة، تصلح أصلاً في كلِّ زمان ومكانٍ وحال.



الدعاءُ رافع للبلاء دافعٌ للشقاء، قال إبراهيم عليه السلام كما في محكَم التنزيل: (وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا) [مريم:48]، وقال الله سبحانه عن نبيِّه زكريّا عليه السلام: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً) مريم:4. فكم من بليّة ومحنةٍ رفعها الله بالدّعاء، ومصيبة كشفَها الله بالدّعاء، وكم من ذَنب ومعصيةٍ غفرَها الله بالدّعاء، وكم من رحمة ونعمةٍ ظاهرة وباطنةٍ استُجلِبت بسبَب الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُغني حذَر من قدَر، والدعاءُ ينفَع ممّا نزل وممّا لم ينزِل، وإنَّ البلاء لينزل فيلقاه الدّعاء، فيعْتلِجان إلى يومِ القيامة)) رواه الحاكم والطبراني بسند حسن، وله شاهد عند أحمد.


الدعاء قربةُ الأنبياء، (إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، لا يهلِك مع الدّعاءِ أحد، ولا يخيب من للهِ رجا وقصَد، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحِم إلا أعطاه الله بِها إحدى ثلاث: إمّا أن يعجِّل له دعوتَه، وإمّا أن يدَّخر له، وإمّا أن يكشِف عنه من السوء بمثلَها))، قالوا: إذا نُكثر؟! قال: ((اللهُ أكثَر)) رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.


ولمَّا دعا إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى للنار: (كُونِى بَرْداً وَسَلَـامَا عَلَى ابْراهِيمَ) [الأنبياء:69]، (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء:76]، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ) [الأنبياء:83، 84]، ولمّا نادى ذو النّون في الظلمات جاء الجوابُ من فوقِ السموات فقال الله جل في علاه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِـى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88]، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء:89، 90]، وقد ذكَر الله تعالى رحمتَه بزكريّا إذ نادى ربَّه نداء خفياً، فلم يكن بدعاءِ ربّه شقياً، وفي كتابِ الله تعالى أكثرُ من ثلاثمائة آية عن الدعاء.


فيَا من تكالبَت عليه الهموم والغموم، وضاقت عليه الأرضُ بما رحُبت، أينَ أنت من سؤال الله، أينَ أنتَ من سؤال الله ورجائه؟! ويا مَن أرهقته الأمراضُ وأغرقته الديون، أين أنتَ مِن دعاءِ الغنيّ الكريم؟! ويا مَن أثقلته المعاصي والذنوب، أينَ أنتَ مِن غافرِ الذنب وقابل التّوب؟! ويا مَن غشيَه الخوف والقلق، تطلّعْ إلى السّماء فعند الله الفرَج.
هذا هو الدّعاء، فأين السائلون؟! وهذا هو الطريق، فأين السالكون؟!


أمّة الإسلام، لقد مرّ على الأمّة أزمات ومضائقُ وابتلاآت ومآزق، فكان اللجَأ إلى الله هو سبيل النجاة، والله تعالى يبتلي الناسَ لترِقَّ قلوبهم ويلجؤوا إليه بصدقٍ وتضرّع، قال الله تعالى لرسوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام:42، 43]. ولقد كان بعض المشركين الأوائل إذا نابَتهم النوائبُ واشتدَّ عليهم الخطب عرفوا أيَّ بابٍ يطرقون، وأين يلجؤون ويُهرَعون، فدعَوا اللهَ مخلِصين له الدّين، وهذه أمّة الإسلام اليومَ أحوجُ ما تكون إلى ربِّها ولطفِه ونصره وعطفِه، فما الذي تغيَّر من حالِها؟! أينَ الرجوع إلى الله؟! أين سؤالُه ودعاؤه وقصده ورجاؤه؟!


أيّها المسلمون، إنَّ للدعاء شروطًا وآدابًا وأحكاما وأسبابًا، ينبغي للمسلم أن يتعلَّمها تأدُّباً مع ربِّه، وتقرّباً لإجابة دعائه وطلبِه، ومنها توحيدُ الله تعالى في الدّعاء في القصدِ والطلب والوسيلة، وهذا بابٌ عظيم جعل الدعاءَ هو العبادة، فكان واجباً أن يُخلَص لله تعالى، وأن يتوجّه العبدُ إليه سبحانَه بالدعاء والمسألة والطّلب والاستغاثة والاستعانَة والاستعاذة والاستِجارة والاستسقاءِ والاستنجادِ والاستغفار وطلَب النُّصرة وتحقيقِ المرغوبِ ودَفع المَرهوب وغُفران الذنوب وهداية القلوب وسدِّ الفاقات وسؤال قَضاء الحاجات ونَيل المَسرَّات وتفريج الكرباتِ وإغاثَة اللّهفات وإزالةِ الغمّة وشفاء المريض وأَمن الطريق والتثبيتِ عند السؤال والأمن يومَ الوعيد والنجاةِ من العذاب الشديد، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الدعاء والمسألةِ ممَّا لا يقدر عليه إلا الله تعالى جلباً لنفعٍ أو دَفعاً لضرّ، وهذا من خالِص حقّ الله سبحانه على العَبد، وهو توحيدٌ من العبد لربّه في الدّعاء؛ لأنَّ الله سبحانه لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، وهو وحدَه الذي يسمَع دعاءَ الداعين أينما كانوا، وبأيِّ لغةٍ تكلّموا، لا يشغله سمعٌ عن سمع، ولا يتبرّم بكثرةِ الداعين وإلحاحِ الملحّين، هو سبحانه الذي لا تشتبِه عليه الأصوات، ولا تختلِف عليه الحاجات، يعلمُ ما في الضمائر وما تنطوِي عليه السرائر، وهو سبحانَه الذي ينفَع ويضرّ على الحقيقة دون أحدٍ من الخلائق.


لِذا كان من الشرك دعاءُ الأموات والقبور والملائكة والجنّ وغيرهم، وسواء كان باسم الشفاعة أو الوسَاطة أو الوجاهة أو القُربة، بل أخبر الله تعالى أنَّ الدعاءَ هو الدين فقال جلّ شأنه: (هُوَ الْحَىُّ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) [غافر:65]، والآيات في الباب كثيرة. ومن تأمّل دعاءَ الأنبياء وجدَه بالتوحيد كدعاءِ الكرب الذي دعا به يونسُ عليه السلام، فإنَّه لم يتضمّن طلباً في الظاهر، وإنما كان توحيدًا خالصاً، (فَنَادَى فِى الظُّلُمَـاتِ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـانَكَ) [الأنبياء:87]، فاستجاب الله تعالى له بالتوحيد.


أيّها المسلمون، وممَّا ينبغي مراعاتُه في الدعاء بعدَ الإخلاص والمتابعة التضرّعُ والابتهال إلى الله تعالى والتملّق إليه بأسمائِه الحسنى وصفاته العلا، (وَللَّهِ الأسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، والاستغفار والإقرارُ بالذنب والاعتراف بالنّعم واستفتاحُ الدّعاء بالحمد والثناء على الله بما هو أهلُه والصلاة والسلامُ على خاتَم أنبيائه ورسله محمّد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يدعوَ بإثمٍ ولا قطيعة رحِم، ولا يعتديَ في الدّعاء، ولا يستعجِل، ولا يستبطئ الإجابة، ولا يقنُط، فإنَّ العبدَ يدعو ربًّا كريماً، ويكون الداعي مؤمناً موقناً راجياً مستقبلَ القبلة متطهّراً في هيئة حسنةٍ توقيراً لله تعالى، رافعاً يدَيه لله سبحانه جازماً في المسألة عازِماً ملِحًّا في الدّعاء متحيِّناً أوقاتَ الإجابة متحرّياً الأدعيةَ النبويّة متحَلِّلاً من المظالم مقدِّماً بين يدَي نجواه صدقة، فإنَّ مثل هذا لا يكاد يُردّ أبَداً، وإن تخلّفَ أثرُ الدعاء فليتَفقَّد الداعي نفسَه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيّها الناس، إنَّ الله طيِّب لا يقبَل إلا طيّباً، وإنَّ اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ وَاعْمَلُواْ صَـالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]، وقال: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ) [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجلَ يطيل السفَر، أشعَث أغبر يمدّ يدَيه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! رواه مسلم.


واستمِعوا ـ رحمكم الله ـ لهذا النّداء الإلهيّ من ربِّكم الذي يناديكم بقوله: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:55، 56].





الخطبة الثانية:


الحمد لله الواحِد القهّار، المتصرِّف في خلقه بما يشاء ويختَار، يقبضُ ويبسط، ويرفع ويخفِض، يجعل بعضَ خلقه لبعضٍ فتنة، وله في كلِّ تصريفٍ حكمَة، وفي كلِّ محنَة على المؤمن مِنحَة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، صلوات ربّي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.


أما بعد: أيّها المسلمون، مَن عامل الله تعالى بالتّقوى حالَ رخائِه عامله الله باللّطف والإعانة في حالِ شدَّته كما قال تعالى عن يونس عليه السلام لمَّا التقمَه الحوت: (فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143، 144]، أي: لولا ما تقدّم مِن العملِ الصّالح لبقي في بطنِ الحوتِ إلى يوم القيامة.


فاتَّقوا الله عبادَ الله، وادعُوه وألحّوا عليه في الطلَب، سيما في الأوقاتِ الحرِيَّة بالإجابة كيومِ الجمعة والثلُث الأخير من الليل وبينَ الأذان والإقامة وفي السّجود وغير ذلك ممَّا دلّت عليه السنَّة.


وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرشِ الكريم)) رواه البخاري ومسلم.


وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب أحداً قطّ همّ ولا حزنٌ فقال: اللهمَ إنّي عبدك ابنُ عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمّيت به نفسَك، أو علَّمتَه أحداً من خلقك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علم الغيبِ عندك، أن تجعلَ القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزني وذهابَ همي، إلا أذهبَ الله عزّ وجلّ همَّه وحزنه، وأبدله مكانَه فرَحاً))، فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلّمُها؟ فقال: ((بلى، ينبغِي لمَن سمعَها أن يتعلّمَها)) رواه أحمد والحاكم وابن حبان والطبرانيّ بسند صحيح.


فعليكم بالدّعاء والصّبر على البلاءِ والعودةِ إلى ربّ الأرض والسماء، مع اليقين بقدَر الله، وأنَّ الله تعالى لا يظلِم مثقالَ ذرة، وأنَّ ما يصيب الإنسانَ فبسبَب نفسه.


ثمَّ اعلموا ـ رعاكم الله ـ أنَّ الأمّة أحوجُ ما تكون إلى وحدة الصفّ ونبذِ الخلافات والاجتماع على المصير الواحِد والابتعاد عن الاجتهادات والتصرّفات الفرديّة عن جماعة المسلمين، فإنَّ الاختلاف والتنازعَ سببٌ للفشل كما قال الله عز وجل: (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ) [الأنفال:45، 46]، فقد أمرنا الله تعالى بطاعةِ الله ورسوله وعدمِ التنازع، وهو إشارةٌ إلى طاعة وليِّ الأمر، وإن حصل التنازع فالنتيجة الفشلُ وذهاب الريح، أي: ذهابُ القوة، وقيل: ذهابُ مهابة العدوّ لكم، (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ)، فالصبر واجبٌ مأمور به.


إنَّ الواجبَ على المسلمين اتباعُ توجيهات الكتاب والسنة، والواجبُ على العلماء والمسلمين توجيه الناسِ وإرشادُهم لما ينفعهم ويكشِف كربتَهم ويصلح حالهم، بتذكيرهم بالعودَة إلى الله، ومحاسبَة النفس واللجوءِ إلى الله ودعائه والإقبال عليه والطمأنينةِ به والاجتماع وعدَم الفرقة والنّزاع والائتلاف وتَرك الخلاف والإرجاف وردّ الأمور إلى ولاتِها والحذَر من إشاعة البلبَلة والقلاقِل ممّا يهدِّد مصالحَ الجماعة، ويؤدّي لاضطراب الأحوالِ وانتشار الخوف وقتل المعنويَّات، فإنَّ خلافَ ذلك إثم واعتداءٌ على الأمة، قال الله تعالى محذّراً: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].


ثمّ اعلموا أنَّ الله تعالى أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].


اللهمّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان




الانتماء للأوطااااان

للشيخ صالح آل طالب -إمام الحرم المكى-


الحمد لله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام:1-3].. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- أيها المسلمون: وخافوه وأطيعوا أمره ولا تعصوه: (.. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة:223].


سارعوا لمرضاة ربكم واعلموا أن قد حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، ولا مفر من المصير، ومن استطال الطريق ضعف مشيه ومن تعلق بالشهوات لم تصح له عزيمة.


عباد الله.. أيها المسلمون: شعورٌ كم خفقت به القلوب وشوقٌ كم كلفت به الأفئدة وحنينٌ يزلزل مكامن الوجدان.. حبٌّ أطلق قرائح الشعراء وهوى سُكبت له محابر الأدباء وحنينُ أمضّ شغاف القلوب وإلفٌ يأوي إليه كرام النفوس وسليم الفطر، حبٌّ لم يتخل منه مشاعر الأنبياء وود وجد في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء ورفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء.. إنه أيها المسلمون حب الأوطان.. قال أهل الأدب: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحنته إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه".


المحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمر غريزي وطبيعة طبع الله النفوس عليها، وحين يولد الإنسان في أرض وينشأ فيها فيشرب ماءها ويتنفس هواءها ويحيا بين أهلها - فإن فطرته تربطه بها فيحبها ويواليها، ويكفي لجرح مشاعر إنسان أن تشير بأنه لا وطن له.. وقد اقترن حب الأرض بحب النفس في القرآن الكريم.. قال الله -عز وجل-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ...) [النساء:66].. بل ارتبط في موضع آخر بالدين.. قال -تعالى-: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].


ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم هجرةً في سبيل الله.. وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عدي بن حراء قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا على الحزورة فقال: "إنكِ لخيرُ أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت"، قال العيني رحمه الله: "ابتلى الله نبيه بفراق الوطن".. ولما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سيبقى مهاجرًا دعا بتحبيب المدينة إليه؛ كما في الصحيحين وفي صحيح البخاري:" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته (أي أسرع بها).. قال ابن حجر -رحمه الله-: "فيها دلالة على فضل المدينة، وعلى حب الوطن والحنين إليه".


أيها المسلمون: البشر يألفون أرضهم على ما بها حتى ولو كان قبراً مستوحشاً، وحب الأوطان غريزةٌ مستوطنةٌ في النفوس تجعل الإنسان يستريح للبقاء فيه ويحن إليه إذا غاب عنه ويدفع عنه إذا هوجم ويغضب له إذا انتقص.. والوطنية بهذا المفهوم الطبيعي أمرٌ غير مستغرب، وهذا السعادة به وتلك الكآبة لفراقه وهذا الولاء له مشاعر إنسانية لا غبار عليها ولا اعتراض، ولا يجوز أن تكون مفهومًا مشوهًّا يعارض به الولاء للدين؛ فالإسلام لا يغير انتماء الناس إلى أرضهم ولا شعوبهم ولا قبائلهم.. فقد بقي بلال حبشيًّا وصهيب روميًّا وسلمان فارسيًّا ولم يتضارب ذلك مع انتمائهم العظيم للإسلام.. وعندما يفكر الإنسان في طبيعته فسيجد أن له محبةً وولاءً وانتماءً لأسرته وعشيرته وأهل قريته؛ كما يحس بانتمائه الكبير للأمة المسلمة باتساعها وتلون أعراقها ولسانها.. إنه لا تعارض بين هذه الانتماءات ولا مساومة عليها، بل هي دوائر يحوي بعضها بعضا.


أيها المسلمون: إن من المغالطة الإيهام بالتعارض بين الوطينة بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام.. إن تصوير هذا التعارض ليس إلا حيلةً للنيل من الإسلام واستغلالًا للمحبة الغريزية للوطن لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعض مصالح الوطن.. وذلك عبر مصادمة أحكام الشريعة لمطالب الوطنية.. إننا لا نريد أن نقابل غلوًّا بغلو.. يجب ألا نستفز من قِبل من غالى في الوطنية ورفع شعارها ندًّا للإسلام ليجعلنا نتجاهل حقوق الوطن ونتساهل فيه.. يجب ألا نسير بغفلة خلف الشعارات المستوردة والمصطلحات الدخيلة، وإن المفهوم المستورد للوطنية مفهومٌ يرفضه الإسلام، وهو مستحدث في ثقافتنا وحضارتنا، وهو معنى فاسد حين يجعله وثنًا تُسخَّر له كل المبادئ ولو عارضت الإسلام، ويؤدي إلى إقصاء شريعة الله وتقسيم الناس إلى أحزاب وطوائف تتباغض وتتناحر ويكيد بعضها لبعض.. وتفتح الباب واسعًا أمام العدو لتحقيق أهدافه ومراميه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52].


أيها المسلمون: من مقتضيات الانتماء للوطن: محبته والافتخار به وصيانته والدفاع عنه والنصيحة له والحرص على سلامته واحترام أفراده وتقدير علمائه وطاعة ولاة أمره..


ومن مقتضيات الوطنية: القيام بالواجبات والمسئوليات كلٌّ في موضعه مع الأمانة والصدق..


ومن مقتضيات حب الوطن: احترام نظمه وثقافته والمحافظة على مرافقه وموارد الاقتصاد فيه، والحرص على مكتسباته وعوامل بنائه ورخائه، والحذر من كل ما يؤدي إلى نقصه..


إن الدفاع عن الوطن واجبٌ شرعي، وإن الموت في سبيل ذلك شهامةٌ وشهادة.. وفي قصة الملأ من بني إسرائيل: غافر (... قَاَلوُا وَمَاَ لََنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا... ) [البقرة:246].


عباد الله: وحتى تتبين مظاهر الوطنية الصادقة ويسقط زيف الشعارات فإن المتأمل في الواقع يميز بين المواطن الصالح الناصح لوطنه وبين الكاذب بالشعارات.. فإن لخيانة الوطن مظاهر.. وظواهر بعضها مرّ على بلادنا فحسم أمره وكبت شره، وبعضها لم يزل قائما يتشكل ويتلون ويخف ويشتد ويبين ويتوارى، وبعضها يظهر باسم الغيرة على الوطن وفي حقيقته غيرة منه.. ومن ذلك ما تورط به شبابٌ أغرارٌ رفعوا شعار نصرة الإسلام وراية الإصلاح فأخطأوا سبيله ولم يجدوا صدورًا يُفرغون فيها رصاصهم إلا صدور أهليهم ولا أمنًا يُزعزع إلا أمن بلادهم ولا بناياتٍ تهدم على مَنْ فيها إلا بنايات وطنهم.. يقطعون شجرا أظلهم ويعكرون ماءً سقاهم.. يزعمون أن عملهم لله وباسم الله.. وهم في حقيقة حالهم قد ارتهنوا لأعدائهم وحسادهم وصاروا أدواتٍ لهم يصرفونهم في الإساءة لأوطانهم كيف شاءوا ومن ورائهم من يبرر ويحرض.. لقد تجللوا بعار الخيانة وتلبّسوا بجرم الجناية.. ناهيك عن تعرضهم للإثم والمقت واستحقاق الوعيد الشديد.

أيها المسلمون: وثمة مظهرٌ آخر من مظاهر خيانة الوطن لا يقل سوءًا عن الأول إن لم يزد عليه.. فلئن كان الأول شاهرًا ظاهرًا فإن الثاني متلونٌ خفي، ولئن كان الأول سريع الفعل حاضر الأثر فإن الثاني بطيء التشكل متحقق التأثير..

إنهم أناسٌ من بني جلدتنا ويتكلمون بألستنا سُبيت قلوبهم وغزيت عقولهم وانبهروا بعدوهم ففقدوا ذواتِهم.. أُشرِب في قلوبهم حب الغرب وسباهم سلوكه فآمنوا بحسنه وسيئه واستحسنوا حلوه ومره، ثم أورثهم ذلك كله انتقاصًا لأهلهم وتثريبًا على أوطانهم وسخريةً بأعرافهم المعتبرة ولمزًا لتقاليده المرعية، وصارت فضائله المتوارثة محل انتقاداتهم وأخلاقياته المتسلسلة غرض رميهم فصارت فنونهم وآدابهم ومقالاتِهم لا غرض لها إلا التشهير بهذا المجتمع وإظهار معايبه وتشويه سمعته في الداخل والخارج..


هل من النصيحة القدح والاتهام والتنقص بالبلد ومقدراته ونظمه وسياسته عبر وسائل المتنوعة أمام العالمين.. أين المواطنة عمن يستعدي العدو المتربص على الوطن بوسائل شتى حتى صارت محاضن العدو مستقَرًّا لشكاياتهم وتذمراتهم مما لا يوافق أهواءهم؟


أليس هذا خيانةً للوطن الفكر المضاد لعقيدة الوطن وعقيدة ولاته وأفراده الترغيب بكل صوره وأشكاله.


أليس هذا كفرًا بالوطن وعلامةً على زيف الشعارات ترى التشويه في صورٍ شتى.. فهذه رواية مسرح أحداثها شوارعنا وأحياء بلدنا بأسمائها المعروفة.. لم يجد كاتبها شخوصٍا لرواية إلا ساقط الناس وأراذل المجتمع مما لم يخلُ منهم عصرٌ أو مصر.. يختصر المجتمع فيهم ويخون البلد بهم ويؤرخ للزمن بحكايتهم..وذلك مسلسلٌ محليٌّ يصوَّر في بيوتنا وأزقتنا يظهر مُواطِن هذا البلد؛ إما مغفَّلًا أو شهوانيًّا أو فاسدًا أو بذيء اللسان.. وذلك كاتبٌ في صحيفةٍ أو مجلةٍ اتخذ له أعداء من أفراد هذا البلد أو مؤسساته تباينت معهم توجهاته واختلفت وإياهم أراؤه فجعلهم مضمون مقالاته وموضوع كتاباته.. يضخم أخطاءهم ويهول أفعالهم ويطعن في مقاصدهم.. وربما شبههم بمنظمة إرهابية أو ربطهم بشبكة إجرامية أو جعلهم أعضاءً في تنظيمٍ دولي محظور.. يستعدي السلطات عليهم ولم يدر أو هو يدري أنه يستعدي الدول والطامعين على بلده.. وربما كانت بعض تلك المؤسسات التي يستهدفها تابعةً للدولة أو هي ضمن أجهزتها ولكن عداءه أعماه عن عاقبة فعله وصنيعه.. وربما طعن في مؤسسات البلد الشرعية أو الأمنية أو طال مناهج التربية والتعليم ووصفها بأنها تخرج أعداء ومقاتلين للعالم، ولا يدري ذلك المغفل أو هو يدري أن من ورائه مراكز رصد وبحوث أجنبية وهيئات ومؤسسات دولية ترصد وتتابع وتترجم وتترقب.. مطامعها في بلادنا ظاهرة ونواياهم في أوطاننا مكشوفة.. يتلمسون العذر للتضييق والمساومة، ويبتغون الحجة للنيل والاستغلال.. يحركون المنظمات والهيئات تجاه بلادنا في دعاوى شهودهم فيها كتابنا وبيناتهم كتاباتنا وذرائعهم تصرفات من داخلنا.. كم ضاقت الحال بدولٍ وألجئت من أوطان ودفع المواطنون ضريبة الحصار.. كل ذلك بسبب خونة للأوطان، راموا الانتقام من أشخاصٍ أو مؤسسات في بلادهم فكان الضرر عاما والخسارة شاملة، ولنا في غيرنا عبرة وعظة.


إنه لا عذر لأولئك المشهرين بمجتمعم الناشرين لنقائص وطنهم وعيوب مواطنيهم سواء ما كان منها واقعاً أو مبالغًا فيه أو ما كان فريةً عليه.. لا نجني من ذلك إلا إيغار صدور المواطنين على وطنهم ومؤسساته والتشويه لوطنهم.. لا عذر لهم في ذلك أبدًا.. إنهم إن راموا الإصلاح فليس هذا طريقه وإن أرادوا النقد فليس هذا سبيله، أما إن شاءوا الانتقام من أفراد ومؤسسات وجعلوا ما مكنوا فيه أذية وتصفية حسابات فهذا هو الداء الذي لا علاج له إلا الكي.


إن الشريعة الإسلامية -وهي التي لم تغفل أقل الأمور- لم تترك سبيل النصيحة ملتبسًا ولم تدع أسلوب الإصلاح غائبًا.. وإن أهم المعالم في طريق الإصلاح والنصيحة التثبت من الحال والعدل والإنصاف في إطلاق الأحكام واطراح الهوى.. وقبل ذلك وبعده عدم التشهير وإذاعة السوء: (...وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْر مِنْ الْأَمْن أَوْ الْخَوْف أَذَاعُوا بِه وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي الْأَمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ِ...) [النساء:83] وفي سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيع الْفَاحِشَة فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَاَللَّه يَعْلَم لَا تَعْلَمُونَ) [النور:19].. وإشاعة الفاحشة تكون بالتحدث بها وتردادها في المجالس والمنتديات.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [ التوبة:24].


بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة.. أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.







الخطبة الثانية:




الحمد لله المحمود بكل حالٍ.. منه المبتدا وإليه المنتهى وإليه المرجع والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الصحب والآل.


أما بعد: ففي النفس عتبٌ كبيرٌ على من أشغله المال عن القيام بحق الوطن والمواطن؛ فإنك ترى جانب ضعف المواطن عند مَنْ يسعى للربح المضاعف على حساب العامة واحتكار البضائع والتلاعب في الأسعار والتضييق على الناس في معاشهم واستغلال الأحداث والظروف دون النظر إلى حال الناس.. ناهيك عن الغش والتدليس، ويزداد العتب على المراكز المؤثرة؛ كالبنوك والمصارف والشركات المالية الكبرى والتي أوقعت شريحة كبيرة من الناس في عقود وقروض لا تبني حضارةً ولا تغني فقيرا.. وإنما تنهك المجتمع في ديون متراكمة؛ لا سيما وأن كثيرًا من هذه البنوك تستثمر أموالها وودائع عملائها في الخارج في صورة تضعف فيها المواطنة مما يحرم البلد من الاستفادة من هذه الأموال وتشغيلها في الداخل وإيجاد المشاريع وتوفير الوظائف وتنمية الحضارة وخدمة المجتمع.


ليس من العدل الاستفادة من خيرات الوطن والتنعم بموارده ثم التخلي عن أي مسئولية تجاهه؛ خصوصاً وقد مرت على كثير من المواطنين كوارث مالية ذهبت بأرزاقهم وتلاشت معها مدخراتهم وقام الضعيف من الناس يساعد من هو أضعف منه، أما تلك المصارف فلم تزدها تلك الأحوال إلا جشعاً، بل مع كل مسغبةٍ جائع تشجئ مصرف وكان الأَوْلَى أن تحمل جزءًا من المواساة.


إن بعض الأغنياء يقدمون للمجتمع خدماتٍ جليلة وأعمال برٍّ خيِّرة ومشاريع مثمرة وهم لا يملكون عُشر ما تملكه البنوك، ومن حق المجتمع أن يتساءل عن دور المصارف في هذا المجال وأمام الأخيار والصادقين ميدان ربحٍ لخدمة وطنهم ورفعته.. كان الله في عون المخلصين.


هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشرية رسول الله محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.


اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره.. اللهم ادفع عن الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.


اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح بطانته واصرف عنه بطانة السوء يارب العالمين، اللهم ووفقه ولي عهده ونائبه الثاني لما تحبه وترضاه ياسميع الدعاء.


اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يارب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل الطغاة والمفسدين.


اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين وفرِّجْ كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين ، واشف برحمتكم مرضانا ومرضى المسلمين.


ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم وذرياتهم يارب العالمين.. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسِّرْ أمورنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أن التواب الرحيم.. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان




الانتماء للأوطااااان

للشيخ صالح آل طالب -إمام الحرم المكى-


الحمد لله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام:1-3].. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- أيها المسلمون: وخافوه وأطيعوا أمره ولا تعصوه: (.. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة:223].


سارعوا لمرضاة ربكم واعلموا أن قد حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، ولا مفر من المصير، ومن استطال الطريق ضعف مشيه ومن تعلق بالشهوات لم تصح له عزيمة.


عباد الله.. أيها المسلمون: شعورٌ كم خفقت به القلوب وشوقٌ كم كلفت به الأفئدة وحنينٌ يزلزل مكامن الوجدان.. حبٌّ أطلق قرائح الشعراء وهوى سُكبت له محابر الأدباء وحنينُ أمضّ شغاف القلوب وإلفٌ يأوي إليه كرام النفوس وسليم الفطر، حبٌّ لم يتخل منه مشاعر الأنبياء وود وجد في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء ورفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء.. إنه أيها المسلمون حب الأوطان.. قال أهل الأدب: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحنته إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه".


المحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمر غريزي وطبيعة طبع الله النفوس عليها، وحين يولد الإنسان في أرض وينشأ فيها فيشرب ماءها ويتنفس هواءها ويحيا بين أهلها - فإن فطرته تربطه بها فيحبها ويواليها، ويكفي لجرح مشاعر إنسان أن تشير بأنه لا وطن له.. وقد اقترن حب الأرض بحب النفس في القرآن الكريم.. قال الله -عز وجل-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ...) [النساء:66].. بل ارتبط في موضع آخر بالدين.. قال -تعالى-: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].


ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم هجرةً في سبيل الله.. وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عدي بن حراء قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا على الحزورة فقال: "إنكِ لخيرُ أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت"، قال العيني رحمه الله: "ابتلى الله نبيه بفراق الوطن".. ولما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سيبقى مهاجرًا دعا بتحبيب المدينة إليه؛ كما في الصحيحين وفي صحيح البخاري:" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته (أي أسرع بها).. قال ابن حجر -رحمه الله-: "فيها دلالة على فضل المدينة، وعلى حب الوطن والحنين إليه".


أيها المسلمون: البشر يألفون أرضهم على ما بها حتى ولو كان قبراً مستوحشاً، وحب الأوطان غريزةٌ مستوطنةٌ في النفوس تجعل الإنسان يستريح للبقاء فيه ويحن إليه إذا غاب عنه ويدفع عنه إذا هوجم ويغضب له إذا انتقص.. والوطنية بهذا المفهوم الطبيعي أمرٌ غير مستغرب، وهذا السعادة به وتلك الكآبة لفراقه وهذا الولاء له مشاعر إنسانية لا غبار عليها ولا اعتراض، ولا يجوز أن تكون مفهومًا مشوهًّا يعارض به الولاء للدين؛ فالإسلام لا يغير انتماء الناس إلى أرضهم ولا شعوبهم ولا قبائلهم.. فقد بقي بلال حبشيًّا وصهيب روميًّا وسلمان فارسيًّا ولم يتضارب ذلك مع انتمائهم العظيم للإسلام.. وعندما يفكر الإنسان في طبيعته فسيجد أن له محبةً وولاءً وانتماءً لأسرته وعشيرته وأهل قريته؛ كما يحس بانتمائه الكبير للأمة المسلمة باتساعها وتلون أعراقها ولسانها.. إنه لا تعارض بين هذه الانتماءات ولا مساومة عليها، بل هي دوائر يحوي بعضها بعضا.


أيها المسلمون: إن من المغالطة الإيهام بالتعارض بين الوطينة بمفهومها الطبيعي وبين الإسلام.. إن تصوير هذا التعارض ليس إلا حيلةً للنيل من الإسلام واستغلالًا للمحبة الغريزية للوطن لإيهام الناس بأن التمسك بتفاصيل الشريعة يعطل بعض مصالح الوطن.. وذلك عبر مصادمة أحكام الشريعة لمطالب الوطنية.. إننا لا نريد أن نقابل غلوًّا بغلو.. يجب ألا نستفز من قِبل من غالى في الوطنية ورفع شعارها ندًّا للإسلام ليجعلنا نتجاهل حقوق الوطن ونتساهل فيه.. يجب ألا نسير بغفلة خلف الشعارات المستوردة والمصطلحات الدخيلة، وإن المفهوم المستورد للوطنية مفهومٌ يرفضه الإسلام، وهو مستحدث في ثقافتنا وحضارتنا، وهو معنى فاسد حين يجعله وثنًا تُسخَّر له كل المبادئ ولو عارضت الإسلام، ويؤدي إلى إقصاء شريعة الله وتقسيم الناس إلى أحزاب وطوائف تتباغض وتتناحر ويكيد بعضها لبعض.. وتفتح الباب واسعًا أمام العدو لتحقيق أهدافه ومراميه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52].


أيها المسلمون: من مقتضيات الانتماء للوطن: محبته والافتخار به وصيانته والدفاع عنه والنصيحة له والحرص على سلامته واحترام أفراده وتقدير علمائه وطاعة ولاة أمره..


ومن مقتضيات الوطنية: القيام بالواجبات والمسئوليات كلٌّ في موضعه مع الأمانة والصدق..


ومن مقتضيات حب الوطن: احترام نظمه وثقافته والمحافظة على مرافقه وموارد الاقتصاد فيه، والحرص على مكتسباته وعوامل بنائه ورخائه، والحذر من كل ما يؤدي إلى نقصه..


إن الدفاع عن الوطن واجبٌ شرعي، وإن الموت في سبيل ذلك شهامةٌ وشهادة.. وفي قصة الملأ من بني إسرائيل: غافر (... قَاَلوُا وَمَاَ لََنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا... ) [البقرة:246].


عباد الله: وحتى تتبين مظاهر الوطنية الصادقة ويسقط زيف الشعارات فإن المتأمل في الواقع يميز بين المواطن الصالح الناصح لوطنه وبين الكاذب بالشعارات.. فإن لخيانة الوطن مظاهر.. وظواهر بعضها مرّ على بلادنا فحسم أمره وكبت شره، وبعضها لم يزل قائما يتشكل ويتلون ويخف ويشتد ويبين ويتوارى، وبعضها يظهر باسم الغيرة على الوطن وفي حقيقته غيرة منه.. ومن ذلك ما تورط به شبابٌ أغرارٌ رفعوا شعار نصرة الإسلام وراية الإصلاح فأخطأوا سبيله ولم يجدوا صدورًا يُفرغون فيها رصاصهم إلا صدور أهليهم ولا أمنًا يُزعزع إلا أمن بلادهم ولا بناياتٍ تهدم على مَنْ فيها إلا بنايات وطنهم.. يقطعون شجرا أظلهم ويعكرون ماءً سقاهم.. يزعمون أن عملهم لله وباسم الله.. وهم في حقيقة حالهم قد ارتهنوا لأعدائهم وحسادهم وصاروا أدواتٍ لهم يصرفونهم في الإساءة لأوطانهم كيف شاءوا ومن ورائهم من يبرر ويحرض.. لقد تجللوا بعار الخيانة وتلبّسوا بجرم الجناية.. ناهيك عن تعرضهم للإثم والمقت واستحقاق الوعيد الشديد.

أيها المسلمون: وثمة مظهرٌ آخر من مظاهر خيانة الوطن لا يقل سوءًا عن الأول إن لم يزد عليه.. فلئن كان الأول شاهرًا ظاهرًا فإن الثاني متلونٌ خفي، ولئن كان الأول سريع الفعل حاضر الأثر فإن الثاني بطيء التشكل متحقق التأثير..

إنهم أناسٌ من بني جلدتنا ويتكلمون بألستنا سُبيت قلوبهم وغزيت عقولهم وانبهروا بعدوهم ففقدوا ذواتِهم.. أُشرِب في قلوبهم حب الغرب وسباهم سلوكه فآمنوا بحسنه وسيئه واستحسنوا حلوه ومره، ثم أورثهم ذلك كله انتقاصًا لأهلهم وتثريبًا على أوطانهم وسخريةً بأعرافهم المعتبرة ولمزًا لتقاليده المرعية، وصارت فضائله المتوارثة محل انتقاداتهم وأخلاقياته المتسلسلة غرض رميهم فصارت فنونهم وآدابهم ومقالاتِهم لا غرض لها إلا التشهير بهذا المجتمع وإظهار معايبه وتشويه سمعته في الداخل والخارج..


هل من النصيحة القدح والاتهام والتنقص بالبلد ومقدراته ونظمه وسياسته عبر وسائل المتنوعة أمام العالمين.. أين المواطنة عمن يستعدي العدو المتربص على الوطن بوسائل شتى حتى صارت محاضن العدو مستقَرًّا لشكاياتهم وتذمراتهم مما لا يوافق أهواءهم؟


أليس هذا خيانةً للوطن الفكر المضاد لعقيدة الوطن وعقيدة ولاته وأفراده الترغيب بكل صوره وأشكاله.


أليس هذا كفرًا بالوطن وعلامةً على زيف الشعارات ترى التشويه في صورٍ شتى.. فهذه رواية مسرح أحداثها شوارعنا وأحياء بلدنا بأسمائها المعروفة.. لم يجد كاتبها شخوصٍا لرواية إلا ساقط الناس وأراذل المجتمع مما لم يخلُ منهم عصرٌ أو مصر.. يختصر المجتمع فيهم ويخون البلد بهم ويؤرخ للزمن بحكايتهم..وذلك مسلسلٌ محليٌّ يصوَّر في بيوتنا وأزقتنا يظهر مُواطِن هذا البلد؛ إما مغفَّلًا أو شهوانيًّا أو فاسدًا أو بذيء اللسان.. وذلك كاتبٌ في صحيفةٍ أو مجلةٍ اتخذ له أعداء من أفراد هذا البلد أو مؤسساته تباينت معهم توجهاته واختلفت وإياهم أراؤه فجعلهم مضمون مقالاته وموضوع كتاباته.. يضخم أخطاءهم ويهول أفعالهم ويطعن في مقاصدهم.. وربما شبههم بمنظمة إرهابية أو ربطهم بشبكة إجرامية أو جعلهم أعضاءً في تنظيمٍ دولي محظور.. يستعدي السلطات عليهم ولم يدر أو هو يدري أنه يستعدي الدول والطامعين على بلده.. وربما كانت بعض تلك المؤسسات التي يستهدفها تابعةً للدولة أو هي ضمن أجهزتها ولكن عداءه أعماه عن عاقبة فعله وصنيعه.. وربما طعن في مؤسسات البلد الشرعية أو الأمنية أو طال مناهج التربية والتعليم ووصفها بأنها تخرج أعداء ومقاتلين للعالم، ولا يدري ذلك المغفل أو هو يدري أن من ورائه مراكز رصد وبحوث أجنبية وهيئات ومؤسسات دولية ترصد وتتابع وتترجم وتترقب.. مطامعها في بلادنا ظاهرة ونواياهم في أوطاننا مكشوفة.. يتلمسون العذر للتضييق والمساومة، ويبتغون الحجة للنيل والاستغلال.. يحركون المنظمات والهيئات تجاه بلادنا في دعاوى شهودهم فيها كتابنا وبيناتهم كتاباتنا وذرائعهم تصرفات من داخلنا.. كم ضاقت الحال بدولٍ وألجئت من أوطان ودفع المواطنون ضريبة الحصار.. كل ذلك بسبب خونة للأوطان، راموا الانتقام من أشخاصٍ أو مؤسسات في بلادهم فكان الضرر عاما والخسارة شاملة، ولنا في غيرنا عبرة وعظة.


إنه لا عذر لأولئك المشهرين بمجتمعم الناشرين لنقائص وطنهم وعيوب مواطنيهم سواء ما كان منها واقعاً أو مبالغًا فيه أو ما كان فريةً عليه.. لا نجني من ذلك إلا إيغار صدور المواطنين على وطنهم ومؤسساته والتشويه لوطنهم.. لا عذر لهم في ذلك أبدًا.. إنهم إن راموا الإصلاح فليس هذا طريقه وإن أرادوا النقد فليس هذا سبيله، أما إن شاءوا الانتقام من أفراد ومؤسسات وجعلوا ما مكنوا فيه أذية وتصفية حسابات فهذا هو الداء الذي لا علاج له إلا الكي.


إن الشريعة الإسلامية -وهي التي لم تغفل أقل الأمور- لم تترك سبيل النصيحة ملتبسًا ولم تدع أسلوب الإصلاح غائبًا.. وإن أهم المعالم في طريق الإصلاح والنصيحة التثبت من الحال والعدل والإنصاف في إطلاق الأحكام واطراح الهوى.. وقبل ذلك وبعده عدم التشهير وإذاعة السوء: (...وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْر مِنْ الْأَمْن أَوْ الْخَوْف أَذَاعُوا بِه وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي الْأَمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ِ...) [النساء:83] وفي سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيع الْفَاحِشَة فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَاَللَّه يَعْلَم لَا تَعْلَمُونَ) [النور:19].. وإشاعة الفاحشة تكون بالتحدث بها وتردادها في المجالس والمنتديات.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [ التوبة:24].


بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة.. أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.







الخطبة الثانية:




الحمد لله المحمود بكل حالٍ.. منه المبتدا وإليه المنتهى وإليه المرجع والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الصحب والآل.


أما بعد: ففي النفس عتبٌ كبيرٌ على من أشغله المال عن القيام بحق الوطن والمواطن؛ فإنك ترى جانب ضعف المواطن عند مَنْ يسعى للربح المضاعف على حساب العامة واحتكار البضائع والتلاعب في الأسعار والتضييق على الناس في معاشهم واستغلال الأحداث والظروف دون النظر إلى حال الناس.. ناهيك عن الغش والتدليس، ويزداد العتب على المراكز المؤثرة؛ كالبنوك والمصارف والشركات المالية الكبرى والتي أوقعت شريحة كبيرة من الناس في عقود وقروض لا تبني حضارةً ولا تغني فقيرا.. وإنما تنهك المجتمع في ديون متراكمة؛ لا سيما وأن كثيرًا من هذه البنوك تستثمر أموالها وودائع عملائها في الخارج في صورة تضعف فيها المواطنة مما يحرم البلد من الاستفادة من هذه الأموال وتشغيلها في الداخل وإيجاد المشاريع وتوفير الوظائف وتنمية الحضارة وخدمة المجتمع.


ليس من العدل الاستفادة من خيرات الوطن والتنعم بموارده ثم التخلي عن أي مسئولية تجاهه؛ خصوصاً وقد مرت على كثير من المواطنين كوارث مالية ذهبت بأرزاقهم وتلاشت معها مدخراتهم وقام الضعيف من الناس يساعد من هو أضعف منه، أما تلك المصارف فلم تزدها تلك الأحوال إلا جشعاً، بل مع كل مسغبةٍ جائع تشجئ مصرف وكان الأَوْلَى أن تحمل جزءًا من المواساة.


إن بعض الأغنياء يقدمون للمجتمع خدماتٍ جليلة وأعمال برٍّ خيِّرة ومشاريع مثمرة وهم لا يملكون عُشر ما تملكه البنوك، ومن حق المجتمع أن يتساءل عن دور المصارف في هذا المجال وأمام الأخيار والصادقين ميدان ربحٍ لخدمة وطنهم ورفعته.. كان الله في عون المخلصين.


هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشرية رسول الله محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.


اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره.. اللهم ادفع عن الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.


اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح بطانته واصرف عنه بطانة السوء يارب العالمين، اللهم ووفقه ولي عهده ونائبه الثاني لما تحبه وترضاه ياسميع الدعاء.


اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يارب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل الطغاة والمفسدين.


اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين وفرِّجْ كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين ، واشف برحمتكم مرضانا ومرضى المسلمين.


ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم وذرياتهم يارب العالمين.. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسِّرْ أمورنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أن التواب الرحيم.. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



حرب الشائعات

لفضيلة الشيخ عبدالرحمن السديس-إمام الحرم المكى-

وبعد خطبة الحاجة قال

فيا عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) النساء:131، فاتقوا الله رحمكم الله، فبالتقوى العصمة من الفتن، والسلامة من المحن، يقول طلق بن حبيب رحمه الله: "اتقوا الفتن بالتقوى".
أيها المسلمون، منذ أن خلق الله الخليقة وُجد الصراع بين القوى، صراعٌ يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبناؤه، فإن هناك حرباً سافرة مستترة تتوالد على ضفاف الحوادث والملِمَّات، وتتكاثر زمن التقلبات والمتغيّرات، وهي أشدّ ضراوة وأقوى فتكا، لأنها تستهدف الإنسان من حيث عُمقُه وعطاؤه، وقيمُه ونماؤه، أتدرون – يا رعاكم الله – ما هي هذه الحرب القذرة؟! إنها حرب الشائعات.
الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عُدَّت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وأنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحريةٌ بالتصدي والاهتمام لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات.
معاشر المسلمين، المستقرئ للتأريخ الإنساني يجد أن الشائعات وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثّل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات.
ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية، على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عدّ الإسلام ذلك سلوكا مرذولاً، منافيا للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا، التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم؟! ومعول هدم لهذه المثُل؟!
كما حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان والنميمة القالة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك؟! وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرّم القذف والإفك، وتوعّد محبّي رواج الشائعات بالعذاب الأليم: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) النور:19 .
وحث على التثبت والتبيّن في نقل الأخبار، يقول سبحانه: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ) الحجرات:6، قرأ حمزة والكسائي: (فتثبَّتوا).
وأخبر سبحانه أن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق:18 ، (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء:36 .
والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ) الحجرات:12، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) ، كما نهى الإسلام أتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه، ويُلغوا عقولهم عند كل شائعة، وتفكيرَهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويصدّقوا قول كل دعيٍّ مارق، أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) ، وفي رواية: ((كفى بالمرء إثماً)).
وسدًّا للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقلة الشائعات المتربّصين، ومنعاً لرواج الشائعة والبلاغات المجهولة الكيدية المغرضة، والأخبار الملفقة المكذوبة على البرآء الغافلين، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: ((ألا أخبركم بشراركم؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)) .
إخوة العقيدة، إذا كان في دنيا النبات طفيليات تلتفُّ حول النبتة الصالحة، لتفسد نموّها، فإن الشائعات ومروّجيها أشدُّ وأنكى، لما يقومون به من خلخلة البُنى التحتية للمجتمع، وتقويض أركانه، وتصديع بنيانه، فكم تجنّوا على أبرياء؟! وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء؟! وكم نالوا من علماء وعظماء؟! وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟! وتسبّبت في جرائم؟! وفككت من أواصر وعلاقات؟! وحطّمت من أمجاد وحضارات؟! وكم دمّرت من أسر وبيوتات؟! وأهلكت من حواضر ومجتمعات؟! بل لرب شائعة أثارت فتنا وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، وأججت أوار معارك دولية، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب كلمة سوء ماتت في مهدمها، ورب مقالة شرّ أشعلت فتنا، لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.
ومروّج الشائعة – يا عباد الله – لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يزبد ويُرغي، ويفسد ويؤذي، فتانٌ فتاكٌ، ساع في الأرض بالفساد، يجوّ الفتن للبلاد والعباد.
إنه عضو مسموم، ذو تجاسر مذموم، وبذاء محموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلوّن كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز، وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخبث والغمز، لا يفتأ إثارة وتشويشاً، ولا ينفك كذباً وتحريشاً، ولا يبرح تقوّلا وتهويشاً، فكم حصلت وحصلت من جناية على المؤهلين الأكفياء بسبب شائعة دعيٍّ مأفون، ذي لسان شرير، وقلم أجير، في سوء نية، وخبث طوية، وهذا سرّ النزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية.
إخوة الإيمان، ومنذ فجر التأريخ والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروّجها ضعاف النفوس والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التأريخ - لاسيما اليهود قتلة الأنبياء ونقضة العهود - كبر الشائعات، بغيةَ هدم صرح الدعوة الإسلامية، والنيل من أصحابها، والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرّضوا لحملة من الافتراءات، والأراجيف ضد رسالتهم، تظهر حينا، وتحت جُنح الظلام أحياناً، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) البقرة:87.
فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصديقة: (ياأُخْتَ هَـارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) مريم:28.
والكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف، (كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) يوسف:24 .
والسيرة العطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنموذج يحمل في طياته نماذج حية لتأريخ الشائعة، والموقف السليم منها، فقد رُميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرُمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته صلى الله عليه وسلم ، ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة الطاهرة، وتتعرّض لعرض أكرم الخلق على الله صلى الله عليه وسلم ، وعرض الصديق والصديقة صفوان بن المعطل رضي الله عنهم أجمعين، وتشغل هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً.
والمجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، ويتعذّب ضميره، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، ولولا عناية الله لعصفت بالأخضر واليابس، حتى تدخّل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة، (لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) النور:12 ، إلى قوله سبحانه: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـذَا سُبْحَـانَكَ هَـذَا بُهْتَـانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) النور:16، 17، تقول عائشة رضي الله عنها: (فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم)، حتى برّأها الله من فوق سبع سموات، رضي الله عنها وأرضاها.
ومن ذلك – يا عباد الله – استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى، ولن تقوم له قائمة حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، وظل الناس في اضطراب حتى هيّأ الله الصديق أبا بكر رضي الله عنه فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ) آل عمران:144.
أمة الإسلام، وتتطوّر الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطوّر التقانات، وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثّلت العلم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية تتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة، وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومُثلها، وثوابتها وقيمها.



إنها ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس، مركّزة على شائعات الخوف والمرض، وإثارة القلق والرعب والحروب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس، لا سيما في أوقات الأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبطالة وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان البحر المتلاطم، وتكمن خطورتها أنها سلاح جنوده مغفّلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالبَّبغاوات دون أن يدركوا أنهم أدوات يُستخدمون لمصالح أعدائهم، وهم لا يشعرون.
وكم كان للشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصنّاع القرار في العالم، وكم كانت سببا في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثيرٌ للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى.
وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة، وكأنها حقائق مسلّمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بجهاز الإنترنت، عبر مواقعه المشبوهة فيلطّخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم الصفيقة مما تجفل القلوب من مجرّد سماعه، وتتحرّج النفوس المؤمنة من مطالعته، فضلاً عن البوح به، وما درى من هم هؤلاء الجبناء، خفافيش الظلام، إنهم أدوات في أيدي من يُعرف باللوبي الصهيوني العالمي، ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.
وإنه ليخشى لمن أدمن النظر فيها أن يخسر دينه ودنياه وآخرته، وأن يلتبس عليه الحق بالباطل، فينحرف عن جادة الصواب والعياذ بالله، وهل يجوز لنا ويليق بنا – نحن أهل الإسلام – أن نتخلى عن شيء من ثوابتنا؟!‍ أو أن تهتز بعض قناعاتنا؟! أو أن نظن غير الحق بأحد من علمائها وفضلائنا بمجرّد وشاية كاذبة أو شائعة مغرضة؟‍! أين عقولنا وتفكيرنا ؟! بل أين ديننا وإيماننا أن نتلقف كل شيء تحت شعار قالوا وزعموا؟!.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ولو أن كلَّ عالم تركنا قوله بمجرّد خطأ وقع فيه، أو كلام الناس فيه، ما سلم معنا أحد، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة"، فالله المستعان.
عباد الله، ومن هنا تدركون – يا رعاكم الله – خطورة هذه الحرب ضد دين الأمة وأمنها ومجتمعها، مما يتطلب ضرورة التصدي لها، وأهمية مكافحتها، والتخطيط لاستئصال جرثومتها، حتى لا تقضي البقية الباقية من تماسك المجتمع، وتلاحم أفراده.
وواجب علماء الأمة ودعاتها، وطلاب العلم فيها وشبابها في ذلك كبير وعظيم، فإنهم مستهدفون، فعليهم أن يدركوا أبعاد المؤامرة، وأن لا يكونوا ميداناً خصباً لتواجدها، وانتشارها بينهم، وأن يحرصوا على التثبت والتبيّن، وأن يحذروا مسالك التأويل والهوى، واتباع المتشابه، وأن يقفوا في الأحداث عن علم وبصيرة، ويكفّوا ببصر نافذ، ونظر ثاقب، وظنّ حسن، بعيداً عن إيغار الصدور، وبث الشائعات والشرور، معتصمين بالكتاب والسنة، متخذين من موقف السلف الأنموذج عند الفتن.
والأمة مطالبة كلٌ في مجاله للقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع، كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في المحافظة على سلامة المجتمع من شرورها وأخطارها، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات المشبوهة، وإيجاد صيغة علمية وآلية عملية للحوار الحضاري، والموقف السليم في الأحداث والمتغيرات، واختلاف الظروف والمستجدات، بإخلاص وصدق وشفافية، دون تزييف أو التواء، رفعاً من روح المعنوية، وبعداً عن الخور والضعف والانهزامية، كما قال سبحانه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَـانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) آل عمران:173-175.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليما غفوراً.

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



حرب الشائعات

لفضيلة الشيخ عبدالرحمن السديس-إمام الحرم المكى-

وبعد خطبة الحاجة قال

فيا عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) النساء:131، فاتقوا الله رحمكم الله، فبالتقوى العصمة من الفتن، والسلامة من المحن، يقول طلق بن حبيب رحمه الله: "اتقوا الفتن بالتقوى".
أيها المسلمون، منذ أن خلق الله الخليقة وُجد الصراع بين القوى، صراعٌ يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبناؤه، فإن هناك حرباً سافرة مستترة تتوالد على ضفاف الحوادث والملِمَّات، وتتكاثر زمن التقلبات والمتغيّرات، وهي أشدّ ضراوة وأقوى فتكا، لأنها تستهدف الإنسان من حيث عُمقُه وعطاؤه، وقيمُه ونماؤه، أتدرون – يا رعاكم الله – ما هي هذه الحرب القذرة؟! إنها حرب الشائعات.
الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عُدَّت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وأنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحريةٌ بالتصدي والاهتمام لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات.
معاشر المسلمين، المستقرئ للتأريخ الإنساني يجد أن الشائعات وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثّل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات.
ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية، على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عدّ الإسلام ذلك سلوكا مرذولاً، منافيا للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا، التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم؟! ومعول هدم لهذه المثُل؟!
كما حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان والنميمة القالة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك؟! وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرّم القذف والإفك، وتوعّد محبّي رواج الشائعات بالعذاب الأليم: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) النور:19 .
وحث على التثبت والتبيّن في نقل الأخبار، يقول سبحانه: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ) الحجرات:6، قرأ حمزة والكسائي: (فتثبَّتوا).
وأخبر سبحانه أن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق:18 ، (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء:36 .
والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ) الحجرات:12، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) ، كما نهى الإسلام أتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه، ويُلغوا عقولهم عند كل شائعة، وتفكيرَهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويصدّقوا قول كل دعيٍّ مارق، أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) ، وفي رواية: ((كفى بالمرء إثماً)).
وسدًّا للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقلة الشائعات المتربّصين، ومنعاً لرواج الشائعة والبلاغات المجهولة الكيدية المغرضة، والأخبار الملفقة المكذوبة على البرآء الغافلين، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: ((ألا أخبركم بشراركم؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)) .
إخوة العقيدة، إذا كان في دنيا النبات طفيليات تلتفُّ حول النبتة الصالحة، لتفسد نموّها، فإن الشائعات ومروّجيها أشدُّ وأنكى، لما يقومون به من خلخلة البُنى التحتية للمجتمع، وتقويض أركانه، وتصديع بنيانه، فكم تجنّوا على أبرياء؟! وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء؟! وكم نالوا من علماء وعظماء؟! وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟! وتسبّبت في جرائم؟! وفككت من أواصر وعلاقات؟! وحطّمت من أمجاد وحضارات؟! وكم دمّرت من أسر وبيوتات؟! وأهلكت من حواضر ومجتمعات؟! بل لرب شائعة أثارت فتنا وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، وأججت أوار معارك دولية، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب كلمة سوء ماتت في مهدمها، ورب مقالة شرّ أشعلت فتنا، لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.
ومروّج الشائعة – يا عباد الله – لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يزبد ويُرغي، ويفسد ويؤذي، فتانٌ فتاكٌ، ساع في الأرض بالفساد، يجوّ الفتن للبلاد والعباد.
إنه عضو مسموم، ذو تجاسر مذموم، وبذاء محموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلوّن كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز، وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخبث والغمز، لا يفتأ إثارة وتشويشاً، ولا ينفك كذباً وتحريشاً، ولا يبرح تقوّلا وتهويشاً، فكم حصلت وحصلت من جناية على المؤهلين الأكفياء بسبب شائعة دعيٍّ مأفون، ذي لسان شرير، وقلم أجير، في سوء نية، وخبث طوية، وهذا سرّ النزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية.
إخوة الإيمان، ومنذ فجر التأريخ والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروّجها ضعاف النفوس والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التأريخ - لاسيما اليهود قتلة الأنبياء ونقضة العهود - كبر الشائعات، بغيةَ هدم صرح الدعوة الإسلامية، والنيل من أصحابها، والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرّضوا لحملة من الافتراءات، والأراجيف ضد رسالتهم، تظهر حينا، وتحت جُنح الظلام أحياناً، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) البقرة:87.
فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصديقة: (ياأُخْتَ هَـارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) مريم:28.
والكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف، (كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) يوسف:24 .
والسيرة العطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنموذج يحمل في طياته نماذج حية لتأريخ الشائعة، والموقف السليم منها، فقد رُميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرُمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته صلى الله عليه وسلم ، ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة الطاهرة، وتتعرّض لعرض أكرم الخلق على الله صلى الله عليه وسلم ، وعرض الصديق والصديقة صفوان بن المعطل رضي الله عنهم أجمعين، وتشغل هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً.
والمجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، ويتعذّب ضميره، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، ولولا عناية الله لعصفت بالأخضر واليابس، حتى تدخّل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة، (لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) النور:12 ، إلى قوله سبحانه: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـذَا سُبْحَـانَكَ هَـذَا بُهْتَـانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) النور:16، 17، تقول عائشة رضي الله عنها: (فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم)، حتى برّأها الله من فوق سبع سموات، رضي الله عنها وأرضاها.
ومن ذلك – يا عباد الله – استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى، ولن تقوم له قائمة حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، وظل الناس في اضطراب حتى هيّأ الله الصديق أبا بكر رضي الله عنه فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ) آل عمران:144.
أمة الإسلام، وتتطوّر الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطوّر التقانات، وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثّلت العلم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية تتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة، وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومُثلها، وثوابتها وقيمها.



إنها ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس، مركّزة على شائعات الخوف والمرض، وإثارة القلق والرعب والحروب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس، لا سيما في أوقات الأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبطالة وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان البحر المتلاطم، وتكمن خطورتها أنها سلاح جنوده مغفّلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالبَّبغاوات دون أن يدركوا أنهم أدوات يُستخدمون لمصالح أعدائهم، وهم لا يشعرون.
وكم كان للشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصنّاع القرار في العالم، وكم كانت سببا في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثيرٌ للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى.
وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة، وكأنها حقائق مسلّمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بجهاز الإنترنت، عبر مواقعه المشبوهة فيلطّخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم الصفيقة مما تجفل القلوب من مجرّد سماعه، وتتحرّج النفوس المؤمنة من مطالعته، فضلاً عن البوح به، وما درى من هم هؤلاء الجبناء، خفافيش الظلام، إنهم أدوات في أيدي من يُعرف باللوبي الصهيوني العالمي، ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.
وإنه ليخشى لمن أدمن النظر فيها أن يخسر دينه ودنياه وآخرته، وأن يلتبس عليه الحق بالباطل، فينحرف عن جادة الصواب والعياذ بالله، وهل يجوز لنا ويليق بنا – نحن أهل الإسلام – أن نتخلى عن شيء من ثوابتنا؟!‍ أو أن تهتز بعض قناعاتنا؟! أو أن نظن غير الحق بأحد من علمائها وفضلائنا بمجرّد وشاية كاذبة أو شائعة مغرضة؟‍! أين عقولنا وتفكيرنا ؟! بل أين ديننا وإيماننا أن نتلقف كل شيء تحت شعار قالوا وزعموا؟!.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ولو أن كلَّ عالم تركنا قوله بمجرّد خطأ وقع فيه، أو كلام الناس فيه، ما سلم معنا أحد، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة"، فالله المستعان.
عباد الله، ومن هنا تدركون – يا رعاكم الله – خطورة هذه الحرب ضد دين الأمة وأمنها ومجتمعها، مما يتطلب ضرورة التصدي لها، وأهمية مكافحتها، والتخطيط لاستئصال جرثومتها، حتى لا تقضي البقية الباقية من تماسك المجتمع، وتلاحم أفراده.
وواجب علماء الأمة ودعاتها، وطلاب العلم فيها وشبابها في ذلك كبير وعظيم، فإنهم مستهدفون، فعليهم أن يدركوا أبعاد المؤامرة، وأن لا يكونوا ميداناً خصباً لتواجدها، وانتشارها بينهم، وأن يحرصوا على التثبت والتبيّن، وأن يحذروا مسالك التأويل والهوى، واتباع المتشابه، وأن يقفوا في الأحداث عن علم وبصيرة، ويكفّوا ببصر نافذ، ونظر ثاقب، وظنّ حسن، بعيداً عن إيغار الصدور، وبث الشائعات والشرور، معتصمين بالكتاب والسنة، متخذين من موقف السلف الأنموذج عند الفتن.
والأمة مطالبة كلٌ في مجاله للقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع، كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في المحافظة على سلامة المجتمع من شرورها وأخطارها، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات المشبوهة، وإيجاد صيغة علمية وآلية عملية للحوار الحضاري، والموقف السليم في الأحداث والمتغيرات، واختلاف الظروف والمستجدات، بإخلاص وصدق وشفافية، دون تزييف أو التواء، رفعاً من روح المعنوية، وبعداً عن الخور والضعف والانهزامية، كما قال سبحانه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَـانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) آل عمران:173-175.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليما غفوراً.

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



المرأة المسلمة والتحديات التى تواجهها

لفضيلة الشيخ حسين آل الشيخ

-إمام الحرم النبوى

فقال بعد خطبة الحاجة

لم تعرف البشريةُ ديناً ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، جعلها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها في الإسلام الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقاَ من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال صلى الله عليه وسلم: " إنما النساء شقائق الرجال" .


المرأةُ في تعاليم الإسلام كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وفيما يترثّب عليها من جزاءات وعقوبات، (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء:124].


هي كالرجل في حمل الأمانة في مجال الشؤون كلها إلا ما اقتضت الضرورةُ البشرية والطبيعة الجِبليّة التفريقَ فيه، وهذا هو مقتضى مبدأ التكريم في الإسلام لبني الإنسان، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70].


إخوةَ الإسلام، لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، ورفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها، يقول المولى جل وعلا: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـاثاً) [الشورى:49-50]، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة" .


المرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، ومُرورًا بكل حال من أحوال حياتها.


رعى حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي كتاب مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين" وضمّ أصابعه، وفي مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له ثلاث نبات وصبر عليهن وكساهن من جدته كُن له حجابا من النار" .


رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَـاناً) [الإسراء:23] بل جعل حقَّ الأمّ في البرّ آكدَ من حقِّ الوالد، جاء رجل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: " أمّك" قال: ثم من؟ قال: " أمّك"، قال: ثم من؟ قال: " أمّك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك" متفق عليه.


رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقاً عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم" متفق عليه، وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقاً، وخيارُكم خياركم لنسائه" .


رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا وعمَّةً وخالةً، فعند الترمذي وأبي داود: " ولا يكون لأحد ثلاثُ بنات أو أخوات فيُحسن إليهن إلا دخل الجنة" .


وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتُر، أو كالصائم الذي لا يفطِر" .


معاشرَ المسلمين، المكانةُ الاجتماعية للمرأة في الإسلام محفوظةٌ مرموقة، منحها الحقوقَ والدفاعَ عنها والمطالبةَ برفع ما قد يقع عليها من حرمان أو إهمال، يقول صلى الله عليه وسلم: " إن لصاحب الحق مقالا".


أعطاها حقَّ الاختيار في حياتها والتصرّف في شؤونها وفقَ الضوابط الشرعية والمصالح المرعية، قال جل وعلا: (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) [النساء:19]، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا البكر حتى تستأذَن في نفسها" .


المرأةُ في نظر الإسلام أهلٌ للثقة ومحلٌّ للاستشارة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكملُ الناس علما وأتمُّهم رأيًا يشاور نساءَه ويستشيرهن في مناسبات شتى ومسائل عظمى.


إخوةَ الإسلام، في الإسلام للمرأة حريةٌ تامة في مناحي الاقتصاد كالرجل سواءً بسواء، هي أهلٌ للتكسُّب بأشكاله المشروعة وطرقه المباحة، تتمتّع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصايةَ لأحدٍ عليها مهما كان وأينما كان، (وَابْتَلُواْ الْيَتَـامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء:6].


بل إن الإسلامَ يفرض للمرأة من حيث هي ما يسمَّى بمبدأ الأمن الاقتصادي مما لم يسبق له مثيلٌ ولا يجاريه بديل حينما كفل للمرأة النفقةَ أمًّا أو بنتاً أو أختاً أو زوجةً وحتى أجنبية، لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغةُ البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسُّب.


معاشر المؤمنين:

هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك غيْضٌ من فيض وقبضةٌ من بحر.


أيها المسلمون:

إن أعداءَ الإسلام تُقلقهم تلك التوجيهاتُ السامية، وتقضّ مضاجعهم هذه التعليمات الهادفة، لذا فهُم بأنفسهم وبمن انجرّ خلفهم في حديث لا يكلّ عن المرأة وشؤونها وحقّها وحقوقها، كما يتصوّرون وكما يزعمون، مما يحمل بلاءً تختلف الفضائل في ضجَّته، وتذوب الأخلاق في أزِمّته، دعواتٌ تهدف لتحرير المسلمة من دينها والمروق من إسلامها، مبادئُ تصادم الطفرةَ وتنابذ القيمَ الإيمانية.

دعواتٌ من أولئك تنبثق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة وحضاراتٍ منتنة، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة. وللأسف تجد من أبناء المسلمين من في فكره عِوَجٌ وفي نظره خلل ينادي بأعلى صوتٍ بتلك الدعوات، ويتحمّس لتلك الأفكار المضلِّلة والتوجُّهات المنحرفة، بل ويلهج سعياً لتحقيقها وتفعيلها.

لذا تجد أقلامَهم تُفرز مقتاً للأصيل من أصولهم والمجيد من تراثهم.


إخوة الإسلام:

لقد عرف أعداءُ الإسلام ما يحمله هذا الدين للمرأة من سموّ كرامةٍ وعظيم صيانة، علموا في مقرراته المأصَّلة أن الأصلَ قرارُ المرأة في مملكة منزلها، في ظل سكينة وطمأنينة، ومحيط بيوتٍ مستقرةٍ، وجوِّ أسرة حانية. رأوا حقوقَ المرأة مقرونةً بمسؤوليتها في رعاية الأسرة، وخروجها في الإسلام من منزلها يؤخَذ ويمارَس من خلال الحشمة والأدب، ويُحاط بسياج الإيمان والكرامة وصيانة العرض، كما قال تعالى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الأولَى ) [الأحزاب:33]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: " وبيوتهن خير لهن" حينذاك ضاقوا من ذلك ذرعاً، فراحوا بكلِّ وسيلة وسعوا بكل طريقة ليخرجوا المرأةَ من بيتها وقرارِها المكين وظلِّها الأمين، لتطلق لنفسها حينئذ العنانَ لكل شاردةٍ وواردة، ولهثوا لهثاً حثيثاً ليحرّروها من تعاليم دينها وقيم أخلاقها، تارةً باسم تحرير المرأة، وتارةً باسم الحرية والمساواة، وتارةً باسم الرقي والتقدم الكاذب. مصطلحاتٌ ظاهرها الرحمة والخير، وباطنُها شرٌّ يُبنى على قلبِ القيم، وعكس المفاهيم، والانعتاق من كل الضوابط والقيم والمسؤوليات الأسَرِية والحقوقِ الاجتماعية، وبالتالي تُقام امرأةٌ تؤول إلى سلعةٍ تُدار في أسواق الملذَّات والشهوات.


فالمرأةُ في نظر هؤلاء هي المتحرِّرةُ من شؤون منزلها وتربية أولادها، هي الراكضةُ اللاهثة في هموم العيش والكسب ونصب العمل ولفْت الأنظار وإعجاب الآخرين، ولو كان ذلك على حساب تدمير الفضيلة والأخلاق, وتدمير الأسرة والقيم، فلا هي حينئذ بطاعة ربٍّ ملتزمةٌ، ولا بحقوق زوجٍ وافية، ولا في إقامة مجتمع فاضلٍ مُسهِمة، ولا بتربية نشءٍ قائمةٌ.


إخوةَ الإسلام، تلك نظراتُهم تصبُّ في بواثِق الانطلاق التامِّ والتحرُّر الكامل، الذي يُغرق الإنسانَ في الضياع والرذيلة وفقدان القيمة والهدف والغاية. أما في الإسلام فالمرأة أهمُّ عناصر المجتمع، الأصلُ أن تكون مربِّيةً للأجيال، مصنعاً للأبطال، ومع هذا فالإسلام ـ وهو الذي يجعل للعمل الخيِّر منزلةً عظمى ومكانةً كبرى ـ لا تأبى تعاليمُه عملاً للمرأة في محيط ما تزكو به النفس، وتُقوَّم به الأخلاق، وتحفظ به المرأة كرامتَها وحياءها وعفَّتها، وتصون به دينها وبدنَها وعرضها وقلبَها، وذلك من خلال ما يناسب فطرتَها ورسالتَها، وطبيعتَها ومواهبَها، وميولها وقدراتِها. ومن هذا المنطلق فالإسلام حينئذ يمنع المرأة وبكلِّ حزم من كلِّ عمل ينافي الدين، ويضادُّ الخلقَ القويم، فيشرط في عملها أن تكون محتشمةً وقورة، بعيدةً عن مظانِّ الفتنة، غيرَ مختلطة بالرجال، ولا متعرّضةٍ للسفور والفجور. ولئن أردنا حقيقةَ الواقع الذي يخالف ذلك المنهج الإسلامي فاسمع ـ يا رعاك الله ـ لأحد كُتَّاب الغرب وهو يقول: "إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجتَه كانت هادمةً لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكلَ المنزل، وقوَّض أركانَ الأسرة، ومزَّق الروابط الاجتماعية"، وتقول أخرى وهي دكتورةٌ تحكي أزماتِ مجتمعها، تقول: "إن سبب الأزماتِ العائلية وسرَّ كثرةِ الجرائم في المجتمع هو أن الزوجةَ تركت بيتَها لتضاعفَ دخلَ الأسرة، فزاد الدخلُ وانخفض مستوى الأخلاق"، إلى أن قالت: "والتجاربُ أثبتت أن عودةَ المرأة إلى المنزل هو الطريقةُ الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي هو فيه" انتهى.


فيا أيها المسلمون، الحرصَ الحرصَ على تعاليم هذا الدين، والحذرَ الحذر من مزالق الأعداء الحاقدين.


بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيّد الأنبياء والمرسلين.


أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقاه وقاه، وأسعده وما أشقاه.


إخوة الإسلام، من أوجُه عناية الإسلام بالمجتمع حرصُه على منع الاختلاط بين الرجال والنساء في أيِّ مجال وفي أيِّ شأن، ذلكم أنه وباءٌ خطير، ما أصيبَ به مجتمع إلا ودبَّت فيه كلُّ بليَّة وعمَّ فيه الشرُّ والفساد، فما من جريمة نُهِش فيها العرض وذُبح العفافُ وأُهدِر الشرف إلا وكانت الخيوطُ الأولى التي نُسجت فيها هذه الجريمة، وسهَّلت سبيلها هي ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة في العلاقة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة يدخل الشيطان ويقع الفساد.


ولنستمع لمقالة إحدى النساء التي عاشت في مجتمع الاختلاط، وهي تحكي تجرباتِ بنات جنسها في مقال أسمته "امنعوا الاختلاط" قالت: "إن المجتمعَ العربيَّ كاملٌ وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسَّك بتعاليمه وتقاليده التي تقيِّد الفتاةَ والشابَّ في حدود المعقول"، إلى أن قالت: "لهذا أنصح بأن تتمسَّكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيِّدوا حريةَ الفتاة، بل ارجعوا إلى أصل الحجاب، فهو خيرٌ لكم من الإباحة والانطلاق والفجور" انتهى.


ألا فليتقِ اللهَ أهلُ الإسلام في مواليهم، وليحسِبوا خطواتِ السير في حياتهم، وليحفظوا ما استرعاهم الله عليهم من رعاياهم، والحذر الحذر من التفريط والاستجابة لفتنة الاستدراج إلى مدارج الغواية والضلالة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـاعاً فَاسْـئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب:53].


ثم إن الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة على النبي الكريم.


اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


اللهم أعز الإسلام والمسلمين...

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



المرأة المسلمة والتحديات التى تواجهها

لفضيلة الشيخ حسين آل الشيخ

-إمام الحرم النبوى

فقال بعد خطبة الحاجة

لم تعرف البشريةُ ديناً ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، جعلها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها في الإسلام الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقاَ من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال صلى الله عليه وسلم: " إنما النساء شقائق الرجال" .


المرأةُ في تعاليم الإسلام كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وفيما يترثّب عليها من جزاءات وعقوبات، (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء:124].


هي كالرجل في حمل الأمانة في مجال الشؤون كلها إلا ما اقتضت الضرورةُ البشرية والطبيعة الجِبليّة التفريقَ فيه، وهذا هو مقتضى مبدأ التكريم في الإسلام لبني الإنسان، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70].


إخوةَ الإسلام، لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، ورفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها، يقول المولى جل وعلا: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـاثاً) [الشورى:49-50]، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة" .


المرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، ومُرورًا بكل حال من أحوال حياتها.


رعى حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي كتاب مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين" وضمّ أصابعه، وفي مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له ثلاث نبات وصبر عليهن وكساهن من جدته كُن له حجابا من النار" .


رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَـاناً) [الإسراء:23] بل جعل حقَّ الأمّ في البرّ آكدَ من حقِّ الوالد، جاء رجل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: " أمّك" قال: ثم من؟ قال: " أمّك"، قال: ثم من؟ قال: " أمّك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك" متفق عليه.


رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقاً عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم" متفق عليه، وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقاً، وخيارُكم خياركم لنسائه" .


رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا وعمَّةً وخالةً، فعند الترمذي وأبي داود: " ولا يكون لأحد ثلاثُ بنات أو أخوات فيُحسن إليهن إلا دخل الجنة" .


وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتُر، أو كالصائم الذي لا يفطِر" .


معاشرَ المسلمين، المكانةُ الاجتماعية للمرأة في الإسلام محفوظةٌ مرموقة، منحها الحقوقَ والدفاعَ عنها والمطالبةَ برفع ما قد يقع عليها من حرمان أو إهمال، يقول صلى الله عليه وسلم: " إن لصاحب الحق مقالا".


أعطاها حقَّ الاختيار في حياتها والتصرّف في شؤونها وفقَ الضوابط الشرعية والمصالح المرعية، قال جل وعلا: (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) [النساء:19]، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا البكر حتى تستأذَن في نفسها" .


المرأةُ في نظر الإسلام أهلٌ للثقة ومحلٌّ للاستشارة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكملُ الناس علما وأتمُّهم رأيًا يشاور نساءَه ويستشيرهن في مناسبات شتى ومسائل عظمى.


إخوةَ الإسلام، في الإسلام للمرأة حريةٌ تامة في مناحي الاقتصاد كالرجل سواءً بسواء، هي أهلٌ للتكسُّب بأشكاله المشروعة وطرقه المباحة، تتمتّع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصايةَ لأحدٍ عليها مهما كان وأينما كان، (وَابْتَلُواْ الْيَتَـامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء:6].


بل إن الإسلامَ يفرض للمرأة من حيث هي ما يسمَّى بمبدأ الأمن الاقتصادي مما لم يسبق له مثيلٌ ولا يجاريه بديل حينما كفل للمرأة النفقةَ أمًّا أو بنتاً أو أختاً أو زوجةً وحتى أجنبية، لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغةُ البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسُّب.


معاشر المؤمنين:

هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك غيْضٌ من فيض وقبضةٌ من بحر.


أيها المسلمون:

إن أعداءَ الإسلام تُقلقهم تلك التوجيهاتُ السامية، وتقضّ مضاجعهم هذه التعليمات الهادفة، لذا فهُم بأنفسهم وبمن انجرّ خلفهم في حديث لا يكلّ عن المرأة وشؤونها وحقّها وحقوقها، كما يتصوّرون وكما يزعمون، مما يحمل بلاءً تختلف الفضائل في ضجَّته، وتذوب الأخلاق في أزِمّته، دعواتٌ تهدف لتحرير المسلمة من دينها والمروق من إسلامها، مبادئُ تصادم الطفرةَ وتنابذ القيمَ الإيمانية.

دعواتٌ من أولئك تنبثق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة وحضاراتٍ منتنة، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة. وللأسف تجد من أبناء المسلمين من في فكره عِوَجٌ وفي نظره خلل ينادي بأعلى صوتٍ بتلك الدعوات، ويتحمّس لتلك الأفكار المضلِّلة والتوجُّهات المنحرفة، بل ويلهج سعياً لتحقيقها وتفعيلها.

لذا تجد أقلامَهم تُفرز مقتاً للأصيل من أصولهم والمجيد من تراثهم.


إخوة الإسلام:

لقد عرف أعداءُ الإسلام ما يحمله هذا الدين للمرأة من سموّ كرامةٍ وعظيم صيانة، علموا في مقرراته المأصَّلة أن الأصلَ قرارُ المرأة في مملكة منزلها، في ظل سكينة وطمأنينة، ومحيط بيوتٍ مستقرةٍ، وجوِّ أسرة حانية. رأوا حقوقَ المرأة مقرونةً بمسؤوليتها في رعاية الأسرة، وخروجها في الإسلام من منزلها يؤخَذ ويمارَس من خلال الحشمة والأدب، ويُحاط بسياج الإيمان والكرامة وصيانة العرض، كما قال تعالى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الأولَى ) [الأحزاب:33]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: " وبيوتهن خير لهن" حينذاك ضاقوا من ذلك ذرعاً، فراحوا بكلِّ وسيلة وسعوا بكل طريقة ليخرجوا المرأةَ من بيتها وقرارِها المكين وظلِّها الأمين، لتطلق لنفسها حينئذ العنانَ لكل شاردةٍ وواردة، ولهثوا لهثاً حثيثاً ليحرّروها من تعاليم دينها وقيم أخلاقها، تارةً باسم تحرير المرأة، وتارةً باسم الحرية والمساواة، وتارةً باسم الرقي والتقدم الكاذب. مصطلحاتٌ ظاهرها الرحمة والخير، وباطنُها شرٌّ يُبنى على قلبِ القيم، وعكس المفاهيم، والانعتاق من كل الضوابط والقيم والمسؤوليات الأسَرِية والحقوقِ الاجتماعية، وبالتالي تُقام امرأةٌ تؤول إلى سلعةٍ تُدار في أسواق الملذَّات والشهوات.


فالمرأةُ في نظر هؤلاء هي المتحرِّرةُ من شؤون منزلها وتربية أولادها، هي الراكضةُ اللاهثة في هموم العيش والكسب ونصب العمل ولفْت الأنظار وإعجاب الآخرين، ولو كان ذلك على حساب تدمير الفضيلة والأخلاق, وتدمير الأسرة والقيم، فلا هي حينئذ بطاعة ربٍّ ملتزمةٌ، ولا بحقوق زوجٍ وافية، ولا في إقامة مجتمع فاضلٍ مُسهِمة، ولا بتربية نشءٍ قائمةٌ.


إخوةَ الإسلام، تلك نظراتُهم تصبُّ في بواثِق الانطلاق التامِّ والتحرُّر الكامل، الذي يُغرق الإنسانَ في الضياع والرذيلة وفقدان القيمة والهدف والغاية. أما في الإسلام فالمرأة أهمُّ عناصر المجتمع، الأصلُ أن تكون مربِّيةً للأجيال، مصنعاً للأبطال، ومع هذا فالإسلام ـ وهو الذي يجعل للعمل الخيِّر منزلةً عظمى ومكانةً كبرى ـ لا تأبى تعاليمُه عملاً للمرأة في محيط ما تزكو به النفس، وتُقوَّم به الأخلاق، وتحفظ به المرأة كرامتَها وحياءها وعفَّتها، وتصون به دينها وبدنَها وعرضها وقلبَها، وذلك من خلال ما يناسب فطرتَها ورسالتَها، وطبيعتَها ومواهبَها، وميولها وقدراتِها. ومن هذا المنطلق فالإسلام حينئذ يمنع المرأة وبكلِّ حزم من كلِّ عمل ينافي الدين، ويضادُّ الخلقَ القويم، فيشرط في عملها أن تكون محتشمةً وقورة، بعيدةً عن مظانِّ الفتنة، غيرَ مختلطة بالرجال، ولا متعرّضةٍ للسفور والفجور. ولئن أردنا حقيقةَ الواقع الذي يخالف ذلك المنهج الإسلامي فاسمع ـ يا رعاك الله ـ لأحد كُتَّاب الغرب وهو يقول: "إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجتَه كانت هادمةً لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكلَ المنزل، وقوَّض أركانَ الأسرة، ومزَّق الروابط الاجتماعية"، وتقول أخرى وهي دكتورةٌ تحكي أزماتِ مجتمعها، تقول: "إن سبب الأزماتِ العائلية وسرَّ كثرةِ الجرائم في المجتمع هو أن الزوجةَ تركت بيتَها لتضاعفَ دخلَ الأسرة، فزاد الدخلُ وانخفض مستوى الأخلاق"، إلى أن قالت: "والتجاربُ أثبتت أن عودةَ المرأة إلى المنزل هو الطريقةُ الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي هو فيه" انتهى.


فيا أيها المسلمون، الحرصَ الحرصَ على تعاليم هذا الدين، والحذرَ الحذر من مزالق الأعداء الحاقدين.


بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيّد الأنبياء والمرسلين.


أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقاه وقاه، وأسعده وما أشقاه.


إخوة الإسلام، من أوجُه عناية الإسلام بالمجتمع حرصُه على منع الاختلاط بين الرجال والنساء في أيِّ مجال وفي أيِّ شأن، ذلكم أنه وباءٌ خطير، ما أصيبَ به مجتمع إلا ودبَّت فيه كلُّ بليَّة وعمَّ فيه الشرُّ والفساد، فما من جريمة نُهِش فيها العرض وذُبح العفافُ وأُهدِر الشرف إلا وكانت الخيوطُ الأولى التي نُسجت فيها هذه الجريمة، وسهَّلت سبيلها هي ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة في العلاقة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة يدخل الشيطان ويقع الفساد.


ولنستمع لمقالة إحدى النساء التي عاشت في مجتمع الاختلاط، وهي تحكي تجرباتِ بنات جنسها في مقال أسمته "امنعوا الاختلاط" قالت: "إن المجتمعَ العربيَّ كاملٌ وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسَّك بتعاليمه وتقاليده التي تقيِّد الفتاةَ والشابَّ في حدود المعقول"، إلى أن قالت: "لهذا أنصح بأن تتمسَّكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيِّدوا حريةَ الفتاة، بل ارجعوا إلى أصل الحجاب، فهو خيرٌ لكم من الإباحة والانطلاق والفجور" انتهى.


ألا فليتقِ اللهَ أهلُ الإسلام في مواليهم، وليحسِبوا خطواتِ السير في حياتهم، وليحفظوا ما استرعاهم الله عليهم من رعاياهم، والحذر الحذر من التفريط والاستجابة لفتنة الاستدراج إلى مدارج الغواية والضلالة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـاعاً فَاسْـئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب:53].


ثم إن الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة على النبي الكريم.


اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


اللهم أعز الإسلام والمسلمين...

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



هشيم الأغانى

لفضيلة الشيخ محمد المطرودى
-إمام جامع البخارى بالرياض-


الَحمْدُ للهِ الذِي حَبَبَ لعبادهِ تلاوةَ القرُآن ، وكرَّه إليهم الكُفْرَ و الفُسُوقَ والعِصيان ، وصلَّى الله عَلى أكملِ المؤمنين خُلقا ، وأطهرَهم قَلبا ، وأَعفَّهَم سَمْعا وبَصرا ، ومَنْ تبعهُ واقتفى أثرهُ وسلَّم تسليما كثيرا ؛أَمَّا بَعْدُ :

فَإنهُ كُلما جاءَ ذكرُ الغِناء ، ضاقتْ بقلوبِ المؤمنينَ أحمالُها ، وبنفُوسِهم همُومُها ، ونفرتْ منهُ أسماعهم ، ذلكَ أنَّه لا يكونَ سماعهُ ولا امتهانهُ حرفةً إلا فَارغٍ بَطَّال، ولا يبحث عنهُ إلا شهوانيٌ مفتونٌ بعدَ أنْ تعطَّلَّ مِنْ كلِ عَمَلٍ ، ولا يختلف أحدٌ من العُقَلاءِ أنَّ سماعَ الغِناء خُبثٌ يقترنُ بالمجونِ والخَلاعَة ، فهو داعٍ للفُجُور ، وتبرُجِ النِساء ، وخَلْعِ جِلبابِ الحياء ، ولا تجدُ أمةً فشا فيها هذا الوباء ، وأقبل أبناؤها عليه ؛ إلا وتفشو فيهم الفُواحش المنكرة ، والجَرائمُ الموبقة ، ذلكَ أنَّ الغناءَ لا يتفقُ معَ دِينٍ مِنَ الأديان ، لأنَّ الأديانَ تدعو إلى الفَضِيلة ، والغناءُ يدعو إلى الرَّذيلة !! ، والعجبُ ممن جعلَ القرآنَ والسُّنةَ خَلَفَ ظهرِهِ ، وأخذَ بآراء الفلاسِفة في حِل الغناء وجوازه ، وأنَّه غذاءُ الرُّوح ، وسلوةُ المهموم ، وهؤلاء الضُّلال كابن سينا والفَارابي وابن الرواندي الذين زنت بعقولهم شَياطين الجن والإنس ، فقالوا مقالةً غيرَ شرعيةٍ تقول
بأنَّ الغناءِ والموسيقى غذاءُ الرُّوح !!.
وكذبَ هؤلاءِ المنحرفون ،
فإنما الغناء والموسيقى غذاءٌ لكُلِ فَاسقٍ وفَاسقةٍ ،
ووقودُ كُلِ شهوةٍ فَاجرةٍ ، وشِبَاكُ كُلِ شِيطانٍ مَريد ، ولو كانَ خيراً لبُعثَ به الأنبياء والرُّسل ، وحثتْ عليهِ الأديانُ ، فَما بَالُ بعضنا يتتبعُ أقوالَ الملاحدة ، ومن ركبه هواه ، وأغواه شيطانه ، وتُتْرَكُ أقوالُ أئمةِ الهُدى ، الذين جعلوا الغِناءَ منبعَ الفُسوقِ والمجونِ لا تختلفُ فيه أقوالهم على مَرِ العُصور ، بل إنَّك لنْ تجدَ عَصْراً يخلو من عَالمٍ يَسُوقُ إجماعِ العُلماءِ على تحريمهِ وتأثيمِ مَنْ يتعاطاه .ولَمْ تَكُنِ العَربُ تعرفُ هذه السَّفاهةَ ، وهذا الغي ،

بل كانَ الغناءُ عندهم لا يعدو أنْ يكون كلاماً مجرداً, ليسَ فيه آلة طَربٍ ولا قيثارة ومزمار فضلاً أن يكونَ مُنكراً مِنَ القَول وزورا.فَما كان الغناء عندهم إلا سماع الشعر العفيف وتلحينه ،وهذا بإجماعِ أهلِ اللغةِ قاطبةً ؛ حتى فَسَدت أحوالُ النَّاس ، وانحرفتْ فطرتُهم، ودخلتِ العُجمة ألسنتُهم؛ فاختلطتِ المعاني ، وأصبحَ الغناءُ الفاحشُ في زماننا له حكم الحداء عند العرب !! وهذا وهمٌ وجهلٌ كبيرٌ.
بل إنَّ هذا الخَلْطَ بين المعاني ، جعلَ ابن قُدامةَ رحمهُ الله يَصِفُ مَنْ أفتى بجوازِ الغِناءِ على هذا المعنى ليسَ أهلاً للفُتيا حيثُ قالَ « وهذا صنيعُ من لا يفرق بين الحُداء والغناء ولا قول الشِعر على أي وجهٍ كان، ومن كان هذا صنيعهُ فليس أهلاً للفُتيا » .
ونجدُ الإمامَ البيهقيَّ رحمهُ الله – وهو أعلمُ النَّاسِ بالإمامِ الشَّافعي- نقل عن الشَّافعي لما سُئلَ عَنِ الرَّجلِ يتخذُ الغناءَ صناعةً لهُ يُؤتى عليهِ ، ويُؤتى له ؟ فقال : لا تجوزُ شهادتهُ ، فإنَّ مَنْ فَعَلَ هذا كانَ منسوباً إلى السَّفهِ ، ومن رضيَ هذا لنفسهِ كانَ مُستخفاً .
وسُئلَ عَنِ الرَّجل يجمعُ النَّاسَ لسماعِ الغناءِ من جارية ؟ فقال : سفيهٌ مردودُ الشَّهادةِ ، وغلَّظ في ذلكَ حتى قال : « هو دَيَاثَة » .
وسُئلَ الإمامُ مالكٌ عمَّا يَتَرَّخَصُ بهِ أهلُ المدينةِ من الغناءِ فقال : « إنَّما يفعلهُ عندنا الفساق » .
وقد نقلَ القاضيُ برهانُ الدينِ الحنفي عن أبي حنيفةَ رحمه اللهُ أقوالاً في ذمِ الغناء ، بل إنَّه أبطلَ عقدَ الإجارةِ إذا اسْتُأجِرَ أحدٌ للغناء ، لأنَّ الغناءَ معصيةٌ ، والإجارةُ على معصيةِ باطلةٌ .
وقالَ في الهِدَاية : « ولا مَنْ يغني النَّاسَ لأنَّهُ يجمعهم على كبيرة » .
ولقدْ بالغَ أئمتُنا في منعهِ وذمهِ حتَّى منعوا منهُ أهلَ الذمةِ مَعَ كُفْرِهم .
وقدْ صحَّ عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وناهيكَ بهِ فقهاً وعلماً وعملاً وصَلاحاً أنه قال: « الغناءُ ينبتُ النِفاقَ في القَلبِ كما ينبتُ الماءُ العُشْبَ » ، وقَالَ ابنُ مسعودٍ على قولهِ تعالى : ( ومن النَّاس من يشتري لهوَ الحديثِ ليُضلَّ عن سَبيل الله ) « واللهِ الذي لا إله إلا هو إنَّ لهوَ الحديثِ لهو الغناء »،كررها ثلاثا ، بل روى الترمذي وغيره أنَّ هذه الآية نزلتْ في القَيْنَاتِ المغنيات !!.
ولم يظهرِ الغناءُ باستعمالِ آلاتِ الطَّربِ واللهوِ إلا في أواخرِ القَرنِ الثَّالث، فلمِ يسمعهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابهُ ، ولا التَّابعونَ لهم بإحسان ، بل نفرتْ قلوب المؤمنين منه ، ومن أهله .
وقدْ روى البخاري رحمه الله عن هشام بن عمّار عن صدقةَ بنِ خالدٍ، عن عبدِ الرَّحمنِ بن يزيدِ بنِ جابر، قال: حدثنا عطيةُ بن قيسٍ، عن عبدِ الرحمن بن غَنْمٍ ، قال: حدثني أبو مالكٍ أو أبو عامر، و والله ما كَذَبني أنَّهُ سِمِعَ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: « لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ»والمراد بالمعازف: آلات اللهو والطرب وهي آلات اللهو بالإجماع .
والعَجبُ ممن يقدحُ في هذا الحديث ، وأنَّ فيهِ انقطاعاً بين البخاري وبين هشامِ بن عمَّار !! ، فهل البخاري مدلس لا يفقه !! أم أنَّه أعلمُ من البُخاري بدقيقِ العلل وخفيها !! ، ويزداد عجبك عندما تعلم أنَّ هذا الحديث قد رواه عن هِشامِ بن عمَّار عَشَرةُ من الرُّواة ، كلُّهم ثقاتٌ أثباتٌ ، فلا يطعنُ في هذا الحديثِ إلا من جهلِ مسالكِ المحدثين ، وهمْ أهلُ الاختصاص ، فلمَ يُسْئَل غَيرهم !!، فهذا الحديثُ صحيحٌ مقطوعٌ بصحتهِ .وقد روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الكريم الجزري, عن قَيسِ بن حَبْتَر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ» .
والكوبة: اسمٌ يطلقُ على كُلِ أنواعِ المعازف .
وروى البخاريُ في الأدبِ المفرد ، والبيهقيُ بإسنادٍ صحيحٍ من طريقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ أَنَّ أُمَّ عَلْقَمَةَ مَوْلاَةَ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ : أَنَّ بَنَاتَ أَخِى عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا خُفِضْنَ فَأُلِمْنَ ذَلِكَ فَقِيلَ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ نَدْعُو لَهُنَّ مَنْ يُلْهِيهِنَّ قَالَتْ بَلَى قَالَتْ فَأُرْسِلَ إِلَى فُلاَنٍ الْمُغَنِّى فَأَتَاهُمْ فَمَرَّتْ بِهِ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا فِى الْبَيْتِ فَرَأَتْهُ يَتَغَنَّى وَيُحَرِّكُ رَأْسَهُ طَرَبًا وَكَانَ ذَا شَعْرٍ كَثِيرٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا :« أُفٍّ شَيْطَانٌ أَخْرِجُوهُ أَخْرِجُوهُ فَأَخْرَجُوهُ » تقول عنهُ شيطانٌ ولم يكن معه مزمارٌ ولا طبلٌ ولا قيثارة !!.ولما كُنَّا في آخرِ الدَّهر ، وتَقَارَبَ الزَّمانُ ، و فَشَا المنْكَرُ ، وظَهرَ المغنونَ والمغنياتُ ، وأُحْدِثَ فيهِ مَا لم يخطرْ على بالِ أحدٍ ، فكانَ لهُ مواقعُ ومُنتدياتٌ ، ونَوادٍ وملاهٍ ليليةٍ، وقنواتٌ ومسارحُ ومؤتمراتٌ ، وكُرِّمَ المغنون الفَسَقَة ، والمغنيات الفاسِقات ، الذين يتراقَصُونَ على النَّغمات ، ويتمايلون على إيقاعها ، وما يصحبها من عَوراتٍ مكشوفة ، ودعوةٍ إلى الفَاحِشة ، بقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ ،حتى إذا ما رأى النَّاشئ من أولادنا هذه الموبقات على شَاشةِ التِلفازِ أو السينما أو المسرح ، اشتاقت نفسهُ إليها وإلى محاكاةِ ما يرى ويسمع ، فأصبحَ الفِسْقُ في المجتمع أمراً واقعياً اعتادهُ الجميعُ إلا من رحم ربك ، والذي يَخْرُجُ عمَّا ألفهُ النَّاس مِنَ الفسقِ والفُجور يُعْتَبَرُ شَاذاً متشددا.
فَسَلُوا التَّاريخَ هَلْ أفَلَ نجمنا،وخبا إسلامنا إلا يومَ سَطَعَتْ نُجُومُ المغنين؛ وقويتْ دولةُ الرَّاقصاتِ في سماءِ حضارتنا.
ثم قُدِمَ هؤلاءِ الفَاشِلون عَلى أنهم فُوارسُ الزَّمان ، وقُدُواتُ العَصْر !!.

كان لحـن الحياة فينا أذانا ** يتغــنى بـه الأباةُ الصيدُ
يملئون الوجود براً ونوراً ** حين يصحو على الآذان الوجود
وإذا اللحن صيحة من رقيعٍ ** وإذا الـترس في المعامع عود
فغدت أمتي مع اللحن سكرى ** يرسـل اللحن فاجرٌ عربيد


فَمَا دَعا إليهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هوَ حياةُ القُلوب ، ونجاةُ النُفوس ، ونورُ البصائر ، وما خالفَ ذلكَ فهو موتُ القُلوب ، وهلاكُ النُفوس ، وعمى البَصائر .

فهذا كلامُ ربِنا سبحانه ، وهذهِ سنةُ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وهذهِ أقوالُ أئمةِ الدِين ، والأمناءُ عَلى شَريعةِ سيدِ المرسلين ، يحرمون الغناء ، بل يعدونهُ من الكبائر ، ويمنعونَ مِنْ فِعْلِهِ ، ويجعلونه مُسقطاً للعَدالة ، ذَاهباً بالمروءة ، لا يفعلهُ إلا السُفهاءُ والمجانين ، وأهلُ المجونِ والخلاعة ، فبأيِ شيءٍ يُعدلُ عن ذلك !! أم في أيِ مَسلكٍ يبتغى الهدى !! .
فحاشَ لعلماءِ الملةِ ، كالشَّافعيِ وغيرِهِ ، بلْ ومَنْ لهُ نصيبٌ من العلمِ والدين ، أنْ يَنْسِبُوا إباحةَ مِثْلَ هذا إلى شريعةِ ربِ العَالمين ، وسُنةِ رسولهِ الأمين ، ومِنْ أبطل البَاطِل ، وأبينِ المحال ، أنْ يُسْتَدَلَ على حِلِ هذا الفُجُور بحُداءِ جويريتين دونَ البُلوغِ في يومِ عيدٍ بأبياتٍ من أشعارِ العَربِ في وصفِ الحربِ والشَّجاعة !! غناءً مجرداً عن جميعِ ما عليهِ الفُساقُ في زماننا من العُودِ والقيثارة .ثم لو قُلنا أنَّ هذا القائلَ بجوازهِ مِنْ أهلِ العلمِ والاجتهاد ، وممنْ يسوغُ العملُ بقولهِ ، فقدْ خالفهُ مثلهُ أو أجَلُّ منهُ ، والحاكمُ بين المتنازِعِينَ كِتابُ اللهِ وسنةُ رسولهِ ، وما كانَ هُوَ عليهِ وأصحابهُ !! فهل سيقول إنهم أجازوه!، أو استمعوا إليه!، أو أقروه!، فماذا بعدَ الحقِ إلا الضَّلال .باركَ الله لي ولكم في الفُرقانِ العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم ،أقولُ هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية :
الحمدُ لله ، أحلَّ الطيباتِ من الكلماتِ وحرَّم الخبائث ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على من بيَّن لأمتهِ سُبُلَ الخير ، وحذَّرها سُبُلَ الشَّر ، وسلَّمَ تَسليماً كثيراً ، أمَّا بَعْدُ :
فقدْ زعمَ قومٌ أنهم يحبونَ الله ، فأنزل الله : ( قل إنْ كنتم تحبونَ الله فاتبعوني يحببكم الله ) ، فلم يقلْ : فارقصوا ، وغنوا واطربوا على صوتِ المزامير ، والألحانِ والنغمات ، فمن أضلُ سبيلاً ممن يدعي محبة الله ، ثم يسمعُ هذا المنكر ، الذي لا يدعو إلى صلاةٍ ، وبرٍ ، وإحسانٍ .

فإنَّه ما اجتمعَ في قلبِ عبدٍ قط محبة الغناءِ ومحبة القرآن؛ إلا طردتْ إحداهما الأخرى، وقدْ شاهدنا وشاهدتم ثِقَلَ القرآنِ على أهلِ الغناءِ ، وتبرُمُهُم منه، وصياحهم بالقارىء إذا طوَّلَ عليهم،ونفرتهُم من المساجد، وعدمُ انتفاعِ قلوبهم بما يقرأهُ فلا تتحركُ ولا تخشعُ قلوبهم ؛ فإذا جاءَ قرآنُ الشَّيطانِ فلا إلهَ إلا اللهُ كيفَ تخشعُ منهم الأصوات، وتهدأُ الحركات ، وتسكُنُ القُلوب وتطمئن، ويقعُ البُكاءُ ويطيبُ لهمُ السَّهر وتمني طُولِ الليل؛ فيا مسلمون : إن لم يكُنْ هذا نِفاقاً فهو ابن أخيهِ الأعَرجُ الخبيث.

ثم بعدَ ذلكَ يأتي متفيهقٌ متشدقٌ متهوكٌ يزعُمُ أنَّ للغناءِ مصالحَ ومنافع ، وأنَّه يُسلي القَلب ، ويبهجُ النَّفس ، ولو أننا تنـزلنا معَ هؤلاء ، وأنَّ الغناء فيه مصالح؛ فمصالِحُهُ كَتَفْلَةٍ في بحرٍ لُجِيٍ ، وصيحةٍ في فلاةٍ قفرٍ ، وشعلةُ ضوءٍ في ليلٍ مدلهم ، فهذا كالخمر والميسر فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس ، وإثمهما أكبرُ من نفعهما، كيفَ والغناء شرٌ محضٌ .فلعمرُ اللهِ كمْ من حُرَّةٍ صارتْ بالغناءِ من البغايا، وكمْ من حرٍ أصبحَ به عبداً للصبايا.
فبينا ترى الرَّجلَ وعليهِ سِمَةُ الوقارِ، وبهاءُ العقلِ ، وبهجةُ الإيمان، ووقارُ الإسلامِ، وحلاوةُ القُرآن ، فإذا استمعَ الغناءَ ومالَ إليهِ نقصَ عقلُه، وقلَّ حياؤه ،وذهبتْ مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلَّى عنه وقارُه، وفرحِ به شيطانه، وشكا إلى اللهِ تعالى إيمانُه، وثَقُلَ عليهِ قُرآنه.ثم أينَ هي تلكَ المنافعُ في واقعِ الأمةِ وأينَ ثمارُها الطَّيبة ؛ في داخِلِ البيوت و خارجها ، فلينصحْ كلٌ منَّا نفسه ، وليتقِ ربَّه ، وليُحسنْ رعايةَ أهلهِ ، وليبذلْ جهدهُ في إبعادِ وسائلِ الفساد عنهم ، وربوهم على الكتاب والسنة ، لا على قنوات الخنا والشَّهواتِ والفتنة .


ثم حقيقةٌ مُرَّة ، ولوعةٌ على واقعِ المسلمين والمسلمات ، ودمعةٌ حرَّى ، ونفسٌ موجوعةٌ ، عندما تَرى أبناءَ هذهِ الأمة يستمعون إلى المغنين والمغنياتِ مِنَ اليهُودِ والنَّصارى ، وعبادِ الصَّليبِ ، الذين لا يتورعونَ عن صرفِ أموالهم في حربِ المسلمين ، وصدِهمْ عن دينهم ، فبعدَ كُلِ حفلةٍ ماجنة، وأمسيةٍ فاجرة، ورقصةٍ فاحشة، تنهالُ التَّبرُعاتُ السَّخية ، لقنواتِ الغناءِ والرَّقص، وجميعياتِ التَّنصير ، ودورِ الفُجورِ والخلاعة ، ونحنُ نشاهدُ هذا عبرَ الشَّاشة مع أبناءنا وبناتنا ولا تتحركُ فينا غيرةُ المسلم ، بل ولا نخوةُ العربي ورجولته إلم يكنْ ثمتَ دينٌ وعقلٌ ، فكيفَ نسمحُ لعدونا ، أنْ يفسدَ أخلاقَ أبناءنا وبناتنا ، حتى خرجَ لنا جيلٌ لا يعرفُ من دينهِ إلا رسمهُ ، فهجروا المصاحِف ، وكرهوا الصَّلاة والمساجد، ونُحِرَ العَفَافُ بيدٍ فاجِرة ، وأصبحتْ الألحانُ ، والموسيقى ، والأغاني المصورة ، تحيطُ بكُلِ النَّاس ، رجالاُ ونساءا ، صِغاراً وكبارا ، فَعَمِيتِ البصائر ، وقَسَتِ القُلوب ، وأظلمتِ البُيوت على أهلها ، فنزهوا – رحمكم الله - أسماعكم وبيوتكم وسياراتكم ، ومجالسكم ، عن الغناءِ وأهله ، وعن المعازف وآلاتها ، وعنِ الخلاعةِ وأربابها ، واعلموا أنَّ عدوكم يكيدُ لكم لتنغمسوا في حمأةِ المعصية ، ولوثةِ الفاحشة .
نزه سمعكَ وبصركَ وقلبكَ يا عبدَ الله ويا أمة الله عن هذا النِفاقِ، واسمع ما تَثْقُلُ به موازينك عند الله ،« فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»

اللهم حببْ إلينا الإيمانَ وزينهُ في قلوبنا ، وكرهْ إلينا الكُفرَ والفُسوقَ والعصيانَ واجعلنا من الرَّاشدين .
اللهم اعصمنا من الفتن ، ما ظهر منها ، وما بطن ، واجعلنا هداةً مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين .
اللهم أرض عن أصحاب نبيك وأرضهم ، واسلك بنا طريقتهم ، واحشرنا في زمرتهم .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم وفقْ ولاةَ أمرنا لرضاك ، وأعنهم على ما وليتهم من شؤونِ عبادك ، وهيئ لهم بطانةِ الخيرِ والصلاح .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



هشيم الأغانى

لفضيلة الشيخ محمد المطرودى
-إمام جامع البخارى بالرياض-


الَحمْدُ للهِ الذِي حَبَبَ لعبادهِ تلاوةَ القرُآن ، وكرَّه إليهم الكُفْرَ و الفُسُوقَ والعِصيان ، وصلَّى الله عَلى أكملِ المؤمنين خُلقا ، وأطهرَهم قَلبا ، وأَعفَّهَم سَمْعا وبَصرا ، ومَنْ تبعهُ واقتفى أثرهُ وسلَّم تسليما كثيرا ؛أَمَّا بَعْدُ :

فَإنهُ كُلما جاءَ ذكرُ الغِناء ، ضاقتْ بقلوبِ المؤمنينَ أحمالُها ، وبنفُوسِهم همُومُها ، ونفرتْ منهُ أسماعهم ، ذلكَ أنَّه لا يكونَ سماعهُ ولا امتهانهُ حرفةً إلا فَارغٍ بَطَّال، ولا يبحث عنهُ إلا شهوانيٌ مفتونٌ بعدَ أنْ تعطَّلَّ مِنْ كلِ عَمَلٍ ، ولا يختلف أحدٌ من العُقَلاءِ أنَّ سماعَ الغِناء خُبثٌ يقترنُ بالمجونِ والخَلاعَة ، فهو داعٍ للفُجُور ، وتبرُجِ النِساء ، وخَلْعِ جِلبابِ الحياء ، ولا تجدُ أمةً فشا فيها هذا الوباء ، وأقبل أبناؤها عليه ؛ إلا وتفشو فيهم الفُواحش المنكرة ، والجَرائمُ الموبقة ، ذلكَ أنَّ الغناءَ لا يتفقُ معَ دِينٍ مِنَ الأديان ، لأنَّ الأديانَ تدعو إلى الفَضِيلة ، والغناءُ يدعو إلى الرَّذيلة !! ، والعجبُ ممن جعلَ القرآنَ والسُّنةَ خَلَفَ ظهرِهِ ، وأخذَ بآراء الفلاسِفة في حِل الغناء وجوازه ، وأنَّه غذاءُ الرُّوح ، وسلوةُ المهموم ، وهؤلاء الضُّلال كابن سينا والفَارابي وابن الرواندي الذين زنت بعقولهم شَياطين الجن والإنس ، فقالوا مقالةً غيرَ شرعيةٍ تقول
بأنَّ الغناءِ والموسيقى غذاءُ الرُّوح !!.
وكذبَ هؤلاءِ المنحرفون ،
فإنما الغناء والموسيقى غذاءٌ لكُلِ فَاسقٍ وفَاسقةٍ ،
ووقودُ كُلِ شهوةٍ فَاجرةٍ ، وشِبَاكُ كُلِ شِيطانٍ مَريد ، ولو كانَ خيراً لبُعثَ به الأنبياء والرُّسل ، وحثتْ عليهِ الأديانُ ، فَما بَالُ بعضنا يتتبعُ أقوالَ الملاحدة ، ومن ركبه هواه ، وأغواه شيطانه ، وتُتْرَكُ أقوالُ أئمةِ الهُدى ، الذين جعلوا الغِناءَ منبعَ الفُسوقِ والمجونِ لا تختلفُ فيه أقوالهم على مَرِ العُصور ، بل إنَّك لنْ تجدَ عَصْراً يخلو من عَالمٍ يَسُوقُ إجماعِ العُلماءِ على تحريمهِ وتأثيمِ مَنْ يتعاطاه .ولَمْ تَكُنِ العَربُ تعرفُ هذه السَّفاهةَ ، وهذا الغي ،

بل كانَ الغناءُ عندهم لا يعدو أنْ يكون كلاماً مجرداً, ليسَ فيه آلة طَربٍ ولا قيثارة ومزمار فضلاً أن يكونَ مُنكراً مِنَ القَول وزورا.فَما كان الغناء عندهم إلا سماع الشعر العفيف وتلحينه ،وهذا بإجماعِ أهلِ اللغةِ قاطبةً ؛ حتى فَسَدت أحوالُ النَّاس ، وانحرفتْ فطرتُهم، ودخلتِ العُجمة ألسنتُهم؛ فاختلطتِ المعاني ، وأصبحَ الغناءُ الفاحشُ في زماننا له حكم الحداء عند العرب !! وهذا وهمٌ وجهلٌ كبيرٌ.
بل إنَّ هذا الخَلْطَ بين المعاني ، جعلَ ابن قُدامةَ رحمهُ الله يَصِفُ مَنْ أفتى بجوازِ الغِناءِ على هذا المعنى ليسَ أهلاً للفُتيا حيثُ قالَ « وهذا صنيعُ من لا يفرق بين الحُداء والغناء ولا قول الشِعر على أي وجهٍ كان، ومن كان هذا صنيعهُ فليس أهلاً للفُتيا » .
ونجدُ الإمامَ البيهقيَّ رحمهُ الله – وهو أعلمُ النَّاسِ بالإمامِ الشَّافعي- نقل عن الشَّافعي لما سُئلَ عَنِ الرَّجلِ يتخذُ الغناءَ صناعةً لهُ يُؤتى عليهِ ، ويُؤتى له ؟ فقال : لا تجوزُ شهادتهُ ، فإنَّ مَنْ فَعَلَ هذا كانَ منسوباً إلى السَّفهِ ، ومن رضيَ هذا لنفسهِ كانَ مُستخفاً .
وسُئلَ عَنِ الرَّجل يجمعُ النَّاسَ لسماعِ الغناءِ من جارية ؟ فقال : سفيهٌ مردودُ الشَّهادةِ ، وغلَّظ في ذلكَ حتى قال : « هو دَيَاثَة » .
وسُئلَ الإمامُ مالكٌ عمَّا يَتَرَّخَصُ بهِ أهلُ المدينةِ من الغناءِ فقال : « إنَّما يفعلهُ عندنا الفساق » .
وقد نقلَ القاضيُ برهانُ الدينِ الحنفي عن أبي حنيفةَ رحمه اللهُ أقوالاً في ذمِ الغناء ، بل إنَّه أبطلَ عقدَ الإجارةِ إذا اسْتُأجِرَ أحدٌ للغناء ، لأنَّ الغناءَ معصيةٌ ، والإجارةُ على معصيةِ باطلةٌ .
وقالَ في الهِدَاية : « ولا مَنْ يغني النَّاسَ لأنَّهُ يجمعهم على كبيرة » .
ولقدْ بالغَ أئمتُنا في منعهِ وذمهِ حتَّى منعوا منهُ أهلَ الذمةِ مَعَ كُفْرِهم .
وقدْ صحَّ عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وناهيكَ بهِ فقهاً وعلماً وعملاً وصَلاحاً أنه قال: « الغناءُ ينبتُ النِفاقَ في القَلبِ كما ينبتُ الماءُ العُشْبَ » ، وقَالَ ابنُ مسعودٍ على قولهِ تعالى : ( ومن النَّاس من يشتري لهوَ الحديثِ ليُضلَّ عن سَبيل الله ) « واللهِ الذي لا إله إلا هو إنَّ لهوَ الحديثِ لهو الغناء »،كررها ثلاثا ، بل روى الترمذي وغيره أنَّ هذه الآية نزلتْ في القَيْنَاتِ المغنيات !!.
ولم يظهرِ الغناءُ باستعمالِ آلاتِ الطَّربِ واللهوِ إلا في أواخرِ القَرنِ الثَّالث، فلمِ يسمعهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابهُ ، ولا التَّابعونَ لهم بإحسان ، بل نفرتْ قلوب المؤمنين منه ، ومن أهله .
وقدْ روى البخاري رحمه الله عن هشام بن عمّار عن صدقةَ بنِ خالدٍ، عن عبدِ الرَّحمنِ بن يزيدِ بنِ جابر، قال: حدثنا عطيةُ بن قيسٍ، عن عبدِ الرحمن بن غَنْمٍ ، قال: حدثني أبو مالكٍ أو أبو عامر، و والله ما كَذَبني أنَّهُ سِمِعَ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: « لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ»والمراد بالمعازف: آلات اللهو والطرب وهي آلات اللهو بالإجماع .
والعَجبُ ممن يقدحُ في هذا الحديث ، وأنَّ فيهِ انقطاعاً بين البخاري وبين هشامِ بن عمَّار !! ، فهل البخاري مدلس لا يفقه !! أم أنَّه أعلمُ من البُخاري بدقيقِ العلل وخفيها !! ، ويزداد عجبك عندما تعلم أنَّ هذا الحديث قد رواه عن هِشامِ بن عمَّار عَشَرةُ من الرُّواة ، كلُّهم ثقاتٌ أثباتٌ ، فلا يطعنُ في هذا الحديثِ إلا من جهلِ مسالكِ المحدثين ، وهمْ أهلُ الاختصاص ، فلمَ يُسْئَل غَيرهم !!، فهذا الحديثُ صحيحٌ مقطوعٌ بصحتهِ .وقد روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الكريم الجزري, عن قَيسِ بن حَبْتَر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ» .
والكوبة: اسمٌ يطلقُ على كُلِ أنواعِ المعازف .
وروى البخاريُ في الأدبِ المفرد ، والبيهقيُ بإسنادٍ صحيحٍ من طريقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ أَنَّ أُمَّ عَلْقَمَةَ مَوْلاَةَ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ : أَنَّ بَنَاتَ أَخِى عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا خُفِضْنَ فَأُلِمْنَ ذَلِكَ فَقِيلَ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ نَدْعُو لَهُنَّ مَنْ يُلْهِيهِنَّ قَالَتْ بَلَى قَالَتْ فَأُرْسِلَ إِلَى فُلاَنٍ الْمُغَنِّى فَأَتَاهُمْ فَمَرَّتْ بِهِ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا فِى الْبَيْتِ فَرَأَتْهُ يَتَغَنَّى وَيُحَرِّكُ رَأْسَهُ طَرَبًا وَكَانَ ذَا شَعْرٍ كَثِيرٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا :« أُفٍّ شَيْطَانٌ أَخْرِجُوهُ أَخْرِجُوهُ فَأَخْرَجُوهُ » تقول عنهُ شيطانٌ ولم يكن معه مزمارٌ ولا طبلٌ ولا قيثارة !!.ولما كُنَّا في آخرِ الدَّهر ، وتَقَارَبَ الزَّمانُ ، و فَشَا المنْكَرُ ، وظَهرَ المغنونَ والمغنياتُ ، وأُحْدِثَ فيهِ مَا لم يخطرْ على بالِ أحدٍ ، فكانَ لهُ مواقعُ ومُنتدياتٌ ، ونَوادٍ وملاهٍ ليليةٍ، وقنواتٌ ومسارحُ ومؤتمراتٌ ، وكُرِّمَ المغنون الفَسَقَة ، والمغنيات الفاسِقات ، الذين يتراقَصُونَ على النَّغمات ، ويتمايلون على إيقاعها ، وما يصحبها من عَوراتٍ مكشوفة ، ودعوةٍ إلى الفَاحِشة ، بقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ ،حتى إذا ما رأى النَّاشئ من أولادنا هذه الموبقات على شَاشةِ التِلفازِ أو السينما أو المسرح ، اشتاقت نفسهُ إليها وإلى محاكاةِ ما يرى ويسمع ، فأصبحَ الفِسْقُ في المجتمع أمراً واقعياً اعتادهُ الجميعُ إلا من رحم ربك ، والذي يَخْرُجُ عمَّا ألفهُ النَّاس مِنَ الفسقِ والفُجور يُعْتَبَرُ شَاذاً متشددا.
فَسَلُوا التَّاريخَ هَلْ أفَلَ نجمنا،وخبا إسلامنا إلا يومَ سَطَعَتْ نُجُومُ المغنين؛ وقويتْ دولةُ الرَّاقصاتِ في سماءِ حضارتنا.
ثم قُدِمَ هؤلاءِ الفَاشِلون عَلى أنهم فُوارسُ الزَّمان ، وقُدُواتُ العَصْر !!.

كان لحـن الحياة فينا أذانا ** يتغــنى بـه الأباةُ الصيدُ
يملئون الوجود براً ونوراً ** حين يصحو على الآذان الوجود
وإذا اللحن صيحة من رقيعٍ ** وإذا الـترس في المعامع عود
فغدت أمتي مع اللحن سكرى ** يرسـل اللحن فاجرٌ عربيد


فَمَا دَعا إليهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هوَ حياةُ القُلوب ، ونجاةُ النُفوس ، ونورُ البصائر ، وما خالفَ ذلكَ فهو موتُ القُلوب ، وهلاكُ النُفوس ، وعمى البَصائر .

فهذا كلامُ ربِنا سبحانه ، وهذهِ سنةُ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وهذهِ أقوالُ أئمةِ الدِين ، والأمناءُ عَلى شَريعةِ سيدِ المرسلين ، يحرمون الغناء ، بل يعدونهُ من الكبائر ، ويمنعونَ مِنْ فِعْلِهِ ، ويجعلونه مُسقطاً للعَدالة ، ذَاهباً بالمروءة ، لا يفعلهُ إلا السُفهاءُ والمجانين ، وأهلُ المجونِ والخلاعة ، فبأيِ شيءٍ يُعدلُ عن ذلك !! أم في أيِ مَسلكٍ يبتغى الهدى !! .
فحاشَ لعلماءِ الملةِ ، كالشَّافعيِ وغيرِهِ ، بلْ ومَنْ لهُ نصيبٌ من العلمِ والدين ، أنْ يَنْسِبُوا إباحةَ مِثْلَ هذا إلى شريعةِ ربِ العَالمين ، وسُنةِ رسولهِ الأمين ، ومِنْ أبطل البَاطِل ، وأبينِ المحال ، أنْ يُسْتَدَلَ على حِلِ هذا الفُجُور بحُداءِ جويريتين دونَ البُلوغِ في يومِ عيدٍ بأبياتٍ من أشعارِ العَربِ في وصفِ الحربِ والشَّجاعة !! غناءً مجرداً عن جميعِ ما عليهِ الفُساقُ في زماننا من العُودِ والقيثارة .ثم لو قُلنا أنَّ هذا القائلَ بجوازهِ مِنْ أهلِ العلمِ والاجتهاد ، وممنْ يسوغُ العملُ بقولهِ ، فقدْ خالفهُ مثلهُ أو أجَلُّ منهُ ، والحاكمُ بين المتنازِعِينَ كِتابُ اللهِ وسنةُ رسولهِ ، وما كانَ هُوَ عليهِ وأصحابهُ !! فهل سيقول إنهم أجازوه!، أو استمعوا إليه!، أو أقروه!، فماذا بعدَ الحقِ إلا الضَّلال .باركَ الله لي ولكم في الفُرقانِ العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم ،أقولُ هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية :
الحمدُ لله ، أحلَّ الطيباتِ من الكلماتِ وحرَّم الخبائث ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على من بيَّن لأمتهِ سُبُلَ الخير ، وحذَّرها سُبُلَ الشَّر ، وسلَّمَ تَسليماً كثيراً ، أمَّا بَعْدُ :
فقدْ زعمَ قومٌ أنهم يحبونَ الله ، فأنزل الله : ( قل إنْ كنتم تحبونَ الله فاتبعوني يحببكم الله ) ، فلم يقلْ : فارقصوا ، وغنوا واطربوا على صوتِ المزامير ، والألحانِ والنغمات ، فمن أضلُ سبيلاً ممن يدعي محبة الله ، ثم يسمعُ هذا المنكر ، الذي لا يدعو إلى صلاةٍ ، وبرٍ ، وإحسانٍ .

فإنَّه ما اجتمعَ في قلبِ عبدٍ قط محبة الغناءِ ومحبة القرآن؛ إلا طردتْ إحداهما الأخرى، وقدْ شاهدنا وشاهدتم ثِقَلَ القرآنِ على أهلِ الغناءِ ، وتبرُمُهُم منه، وصياحهم بالقارىء إذا طوَّلَ عليهم،ونفرتهُم من المساجد، وعدمُ انتفاعِ قلوبهم بما يقرأهُ فلا تتحركُ ولا تخشعُ قلوبهم ؛ فإذا جاءَ قرآنُ الشَّيطانِ فلا إلهَ إلا اللهُ كيفَ تخشعُ منهم الأصوات، وتهدأُ الحركات ، وتسكُنُ القُلوب وتطمئن، ويقعُ البُكاءُ ويطيبُ لهمُ السَّهر وتمني طُولِ الليل؛ فيا مسلمون : إن لم يكُنْ هذا نِفاقاً فهو ابن أخيهِ الأعَرجُ الخبيث.

ثم بعدَ ذلكَ يأتي متفيهقٌ متشدقٌ متهوكٌ يزعُمُ أنَّ للغناءِ مصالحَ ومنافع ، وأنَّه يُسلي القَلب ، ويبهجُ النَّفس ، ولو أننا تنـزلنا معَ هؤلاء ، وأنَّ الغناء فيه مصالح؛ فمصالِحُهُ كَتَفْلَةٍ في بحرٍ لُجِيٍ ، وصيحةٍ في فلاةٍ قفرٍ ، وشعلةُ ضوءٍ في ليلٍ مدلهم ، فهذا كالخمر والميسر فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس ، وإثمهما أكبرُ من نفعهما، كيفَ والغناء شرٌ محضٌ .فلعمرُ اللهِ كمْ من حُرَّةٍ صارتْ بالغناءِ من البغايا، وكمْ من حرٍ أصبحَ به عبداً للصبايا.
فبينا ترى الرَّجلَ وعليهِ سِمَةُ الوقارِ، وبهاءُ العقلِ ، وبهجةُ الإيمان، ووقارُ الإسلامِ، وحلاوةُ القُرآن ، فإذا استمعَ الغناءَ ومالَ إليهِ نقصَ عقلُه، وقلَّ حياؤه ،وذهبتْ مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلَّى عنه وقارُه، وفرحِ به شيطانه، وشكا إلى اللهِ تعالى إيمانُه، وثَقُلَ عليهِ قُرآنه.ثم أينَ هي تلكَ المنافعُ في واقعِ الأمةِ وأينَ ثمارُها الطَّيبة ؛ في داخِلِ البيوت و خارجها ، فلينصحْ كلٌ منَّا نفسه ، وليتقِ ربَّه ، وليُحسنْ رعايةَ أهلهِ ، وليبذلْ جهدهُ في إبعادِ وسائلِ الفساد عنهم ، وربوهم على الكتاب والسنة ، لا على قنوات الخنا والشَّهواتِ والفتنة .


ثم حقيقةٌ مُرَّة ، ولوعةٌ على واقعِ المسلمين والمسلمات ، ودمعةٌ حرَّى ، ونفسٌ موجوعةٌ ، عندما تَرى أبناءَ هذهِ الأمة يستمعون إلى المغنين والمغنياتِ مِنَ اليهُودِ والنَّصارى ، وعبادِ الصَّليبِ ، الذين لا يتورعونَ عن صرفِ أموالهم في حربِ المسلمين ، وصدِهمْ عن دينهم ، فبعدَ كُلِ حفلةٍ ماجنة، وأمسيةٍ فاجرة، ورقصةٍ فاحشة، تنهالُ التَّبرُعاتُ السَّخية ، لقنواتِ الغناءِ والرَّقص، وجميعياتِ التَّنصير ، ودورِ الفُجورِ والخلاعة ، ونحنُ نشاهدُ هذا عبرَ الشَّاشة مع أبناءنا وبناتنا ولا تتحركُ فينا غيرةُ المسلم ، بل ولا نخوةُ العربي ورجولته إلم يكنْ ثمتَ دينٌ وعقلٌ ، فكيفَ نسمحُ لعدونا ، أنْ يفسدَ أخلاقَ أبناءنا وبناتنا ، حتى خرجَ لنا جيلٌ لا يعرفُ من دينهِ إلا رسمهُ ، فهجروا المصاحِف ، وكرهوا الصَّلاة والمساجد، ونُحِرَ العَفَافُ بيدٍ فاجِرة ، وأصبحتْ الألحانُ ، والموسيقى ، والأغاني المصورة ، تحيطُ بكُلِ النَّاس ، رجالاُ ونساءا ، صِغاراً وكبارا ، فَعَمِيتِ البصائر ، وقَسَتِ القُلوب ، وأظلمتِ البُيوت على أهلها ، فنزهوا – رحمكم الله - أسماعكم وبيوتكم وسياراتكم ، ومجالسكم ، عن الغناءِ وأهله ، وعن المعازف وآلاتها ، وعنِ الخلاعةِ وأربابها ، واعلموا أنَّ عدوكم يكيدُ لكم لتنغمسوا في حمأةِ المعصية ، ولوثةِ الفاحشة .
نزه سمعكَ وبصركَ وقلبكَ يا عبدَ الله ويا أمة الله عن هذا النِفاقِ، واسمع ما تَثْقُلُ به موازينك عند الله ،« فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»

اللهم حببْ إلينا الإيمانَ وزينهُ في قلوبنا ، وكرهْ إلينا الكُفرَ والفُسوقَ والعصيانَ واجعلنا من الرَّاشدين .
اللهم اعصمنا من الفتن ، ما ظهر منها ، وما بطن ، واجعلنا هداةً مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين .
اللهم أرض عن أصحاب نبيك وأرضهم ، واسلك بنا طريقتهم ، واحشرنا في زمرتهم .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم وفقْ ولاةَ أمرنا لرضاك ، وأعنهم على ما وليتهم من شؤونِ عبادك ، وهيئ لهم بطانةِ الخيرِ والصلاح .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



بين الموت والحياة

لفضيلة الشيخ الوالد/

محمد سعيد رسلان المصرى

أَمَّا بَعْدُ:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

أَمَّا بَعْدُ:

فَأَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مُعَلَّقاً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ فَتِلْكَ هِيَ الْحَيَاةُ فِي الْأَحْيَاءِ، وَلَكِنَّ الظَّوَاهِرَ أَحْيَاناً تُمِيلُ كِفَّةَ الْمَوْتِ فَيَبْدُو الْأَمْرُ إِلَى الْمَوْتِ مَائِلاً، وَقَدْ تَدُلُّ الظَّوَاهِرُ أَحْيَاناً عَلَى رُجْحَانِ كِفَّةِ الْحَيَاةِ؛ فَيَبْدُو الْأَمْرُ إِلَى الْحَيَاةِ مَائِلاً، وَلَكِنْ فِي الْحَيِّ الَّذِي يُشَارِفُ الْمَوْتَ تَمَاماً كَمَا فِي الْحَيِّ الَّذِي لاَ تَبْدُو عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْمَوْتِ يَصْدُقُ هَذَا الْكَلاَمُ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، وَالْحَيَاةُ فِي الْبَدْءِ وَفِي الْمُنْتَهَى بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ، يَهَبُ الْحَيَاةَ لِلْأَحْيَاءِ وَيَسْلُبُهَا مَتَى يَشَاءُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

إِنَّ الْأَحْيَاءَ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ يُلَوِّنُونَ الْحَيَاةَ بِأَلْوَانِ انْفِعَالاَتِهِمْ؛ فَالْفَرِحُ يُلَوِّنُ الْحَيَاةَ بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَكَأَنَّهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، وَالتَّعِسُ يُلَوِّنُ الْحَيَاةَ بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْحُزْنِ الدَّائِمِ وَالْبُؤْسِ الْمُقِيمِ، وَالْحَيَاةُ فِي النِّهَايَةِ هِيَ الْحَيَاةُ، لاَ تَتَلَوَّنُ بِلَوْنٍ يُلَوِّنُهَا بِهِ الْأَحْيَاءُ.

الْحَيَاةُ هِيَ الْحَيَاةُ.

وَالْإِنْسَانُ إِذَا آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، وَأَتَتْهُ الْبُشْرَى قَبْلَ الْمَمَاتِ، الْإِنْسَانُ إِذَا جَاءَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ مُقِيماً، وَكَانَ لِلْخَيْرِ مُوَاصِلاً، وَكَانَ عَلَى الْبِرِّ مُقْبِلاً، وَكَانَ فِي الْخَيْرَاتِ بَاذِلاً، إِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَطُوبَى، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى.

يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ))، فَهَذِهِ عَلاَمَةٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْخَيْرِ وَدَلاَلَةٌ مِنْ دَلاَلاَتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ يَذْكُرُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الصَّرِيحِ: ((مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ)).

وَكَانَ الْأَصْحَابُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَشْهَدُوا الْجَنَازَةَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، يَتَظَافَرُونَ مَعاً، وَيَتَعَاضَدُونَ إِعْلاَماً وَإِخْبَاراً وَحَثًّا وَحَضًّا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ؛ لِيَقِينِهِمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

وَالنِّهَايَةُ فِي النِّهَايَةِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ، النِّهَايَةُ فِي النِّهَايَةِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ، إِذَا قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحُسْنِهَا؛ فَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنْ تَبْقَى الْبُشْرَى، وَيَبْقَى مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، مَرِيضاً كَانَ أَمْ صَحِيحاً، دَانِياً مِنَ الْمَوْتِ مُشْرِفاً عَلَيْهِ مُعَانِياً لَهُ، أَوْ صَحِيحاً يَتَمَتَّعُ بِالصِّحَّةِ فَيَبْدُو عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَسْبَابِ بَعِيداً عَنْ مُوَاقَعَةِ الْمَوْتِ وَالْوُقُوعِ فِي هُوَّتِهِ.

تَفْنَى تِلْكَ الْأَشْيَاءُ بِمَظَاهِرِهَا وَتَبْقَى الْحَقَائِقُ وَحْدَهَا؛ فَكُلُّ مَا يُعَانِيهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ لاَ يُعَدُّ شَيْئاً فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى النِّهَايَةِ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا، وَالْمُنْتَهَى الَّذِي يَسْعَى إِلَيْهِ، يَسْعَى إِلَى الْمُنْتَهَى بِهِ مَرُّ اللَّيْلِ وَكَرُّ النَّهَارِ؛ لِيُوَاقِعَ فِي النِّهَايَةِ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِكَيْ يَأْتِيَ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى رَبِّهِ فَرِيداً وَحِيداً كَمَا خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ مَبْذُولَةً لِلّهِ، إِذَا كَانَ الْمَرْءُ سَاعِياً إِلَى اللهِ، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ حَرِيصاً عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ، إِذَا كَانَتِ النَّزَوَاتُ بَعِيدَةً، وَالشَّهَوَاتُ مُضْمَحِلَّةً، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى رَبِّهِ مُقْبِلاً، وَعَنِ الشَّهَوَاتِ مُدْبِراً، وَلِهَذَا الدِّينِ بَاذِلاً؛ فَمَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ، مَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ؛ أَلاَ إِنَّهَا الْبِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِلْحَيَاةِ الْحَقِّ، بَعْدَ ذَهَابِ الْوَهْمِ وَبَعْدَ فَنَاءِ الْخَيَالِ تَبْقَى الْحَقِيقَةُ -وَالْحَقِيقَةُ وَحْدَهَا-.

صَحِيحٌ! أَنّهُ قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ صَاحِبٌ صَحِيحٌ، فِي الْحَيَاةِ كُلِّهَا بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ فِيهَا صَاحِبٌ صَحِيحٌ؛ فَتَفْقِدُ بِفَقْدِهِ بَعْضَكَ، تَفْقِدُ بِفَقْدِهِ بَعْضَكَ، وَيَتَلَدَّدُ لِفَقْدِهِ بَدَنُكَ وَجَسَدُكَ وَقَلْبُكَ.

صَحِيحٌ! قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ رَفِيقٌ وَلاَ حَبِيبٌ، وَتَبْقَى فِي الْوَحْشَةِ تُعَانِيها وَتُعَانِيكَ، وَتُزَاوِلُهَا وَتُزَاوِلُكَ، تَبْقَى فَرِيداً غَرِيباً فِي صَحْرَوَاتٍ لَيْسَ لَهَا بَدْءٌ وَلاَ مُنْتَهَى، فِي هَذِهِ الْوَحْشَةِ وَهَذِهِ الْغُرْبَةِ، وَلاَ أَنِيسَ إِلاَّ اللهُ - هُوَ الْحَيُّ الْبَاقِي الَّذِي لاَ يَزُولُ -.

صَحِيحٌ! أَنَّهُ قَدْ لاَ يِصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا - قَدْ لاَ يَصِحُّ - صَاحِبٌ وَلاَ صَدِيقٌ وَلاَ رَفِيقٌ صَحِيحٌ، فَإِذَا صَحَّ ثُمَّ فُقِدَ؛ فَقَدْ فَقَدْتَ بَعْضَكَ، فَقْدَتْ قَلْبَكَ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِدُ قَلْبُهُ مُسْتَقَرَّهُ.

يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ!

يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ!

يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ! بِنِيرَانِهَا الَّتِي تَتَلَظَّى، وَبِلَهِيبِهَا الَّذِي يَتَلَهَّبُ بَيْنَ الْجَوَانِحِ كَاوِياً، وَفِي الْأَحْشَاءِ نَافِذاً، وَعَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَنْبِضُ الْقَلْبُ.

وَلَكِنْ! هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ بِحَقِيقَةِ الْحَيَاةِ - وَلَيْسَتْ إِلاَّ الْحَيَاةَ -.

كَيْفَ الْخَلاَصُ؟

الْخَلاَصُ فِي الْإِخْلاَصِ، وَلاَ صَلاَحَ لِلْبَدَنِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، لاَ صَلاَحَ لِلْبَدَنِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ.

نَعَم! فَلْتُكْبَتُ الْعَوَاطِفُ جَانِباً.

نَعَم! فَلْيَسْتَعْلِ الْمَرْءُ فَوْقَ نَصْلٍ مَسْمُومٍ يُغْرَسُ فِي قَلْبِهِ وَيُدْفَنُ فِي فُؤَادِهِ؛ فَمَا لِاسْتِفْزَازِ الْعَوَاطِفِ خُلِقْنَا، وَإِنَّمَا لِكَبْحِ جِمَاحِهَا وُجِدْنَا؛ فَلْيَسْتَعْلِ الْمَرْءُ فَوْقَ عَوَاطِفِهِ، وَلْيَنْظُرْ إِلَى حَقِيقَةِ الْحَيَاةِ؛ لِيَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي مُنْتَهَاهُ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَى اللهِ.

نَعَم! لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ حَالٍ لَبُوسُهَا.

نَعَم! هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَتَفَاعَلُ بِهِ الْقُلُوبُ، تَحْيَى بِهِ الْأَرْوَاحُ، تَغْتَذِي بِنُصُوصِهِ النُّفُوسُ، تَحْيَى عَلَيْهِ الْأَجْسَادُ، وَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ.

نَعَم! إِنَّمَا هِيَ الْمَسِيرَةُ تُقْطَعُ طَالَتْ أَمْ قَصُرَتْ، وَلَكِنَّ الْمُنْتَهَى مَعْلُومٌ، لِذَلِكَ؛ عِنْدَمَا يَدْهَمُنَا الْمَرَضُ، وَتُنْشَبُ أَظَافِرُهُ الْحَدِيدِيَّةُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَكْبَادِ لَيْسِ مِنْهَا فَكَاكٌ إِلاَّ بِرَحْمَةِ رَبِّ الْعِبَادِ.

عِنْدَمَا يَأْتِي الْمَرَضُ وَيُعَانِي مِنْهُ الْعَبْدُ مَا يُعَانِي، لَيْسَ الْخَوْفُ هَاهُنَا مِنَ الْمَوْتِ؛ فَالْمَوْتُ عِنْدَمَا يَأْتِي يَأْتِي فِي مَوْعدِه،ِ لاَ يَتَقَدَّمُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ عَنْ مَوْعِدِهِ، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد: 8].

كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمِقْدَارٍ، لاَ يَتَقَدَّمُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ، وَإِنَّمَا يَأْتِي فِي مَوْعِدِهِ، وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْأَسَى يُرْفَعُ، وَإِنَّ الْإِشْفَاقَ يَضْمَحِلُّ، هَاهُنَا تَعَامُلٌ مَعَ حَقِيقَةٍ قَائِمَةٍ كَأَنَّهَا فِي النِّهَايَةِ -بَلْ هِيَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ- حَقِيقَةٌ رِيَاضِيَّةٌ حَاسِمَةٌ جَازِمَةٌ وَاقِعَةٌ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا لَبْسٌ وَلاَ الْتِوَاءٌ، حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ؛ فَمَا الشَّأْنُ -إِذَنْ-؟

الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَى فِيهَا الْإِنْسَانُ مُتَخَبِّطاً كَأَنَّمَا يَسِيرُ فِيهَا نَائِماً، الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَفْسَدُ فِيهَا الْقَلْبُ؛ فَيَفْسَدُ الْجَسَدُ وَتَفْسَدُ الْحَيَاةُ، مَا الشَّأْنُ -إِذَنْ-؟

الشَّأْنُ فِي هَذَا الْقَلْبِ الَّذِي لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَى صِرَاطٍ، وَإِنَّمَا هُوَ -وَكُمَا سُمِّيَ- دَائِمٌ فِي تَقَلُّبِهِ، وَمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْباً إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ، هَذَا هُوَ الشَّأْنُ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ الْمَرْءُ؟ كَيْفَ تَصْلُحُ الْحَيَاةُ؟

كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ))، ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)).



كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟

يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ، هَذَا صَلاَحُ الْقَلْبِ.

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ؛ ((إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ))، ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً)) قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ - صَغِيرَةٌ هِيَ -، ((إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)) هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلاَ صَلاَحَ إِلاَّ بِصَلاَحٍ، لاَ صَلاَحَ لِلْجَسَدِ لاَ صَلاَحَ لِلْحَيَاةِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ - كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ وَفَسَدَتِ الْحَيَاةُ.

كَيْفَ صَلاَحُ الْقَلْبِ -إِذَنْ-؟

بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْغُفْرَانَ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ- أَنَّهُ ((إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ اطَّلَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ؛ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ)).

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((يَطَّلِعُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى خِلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)).

فَهَذِه هِيَ الْخِصَالُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَبْرَأَ مِنْهَا الْقَلْبُ؛ لِيَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ، قَبْلَ دُنُوِّ النِّهَايَةِ الَّتِي لاَ تُعْلَمُ، الَّتِي تَقُولُ الشَّوَاهِدُ إِنَّهَا دَانِيَةٌ - وَإِنْ غَفَلَ عَنْ دُنُوِّهَا الْغَافِلُونَ -، الَّتِي تَقُولُ الظَّوَاهِرُ إِنَّهَا قَرِيبَةٌ - وَإِنِ اسْتَبْعَدَتْهَا الظُّنُونُ, وَاسْتَبْعَدَتْهَا الْأَوْهَامُ -.

قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ النِّهَايَةُ، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ؛ فَدُونَهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلاَ - لاَ يَغْفِرُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، لاَ يَغْفِرُ إِلاَّ لِلْمُوَحِّدِينَ، لاَ يَغْفِرُ إِلاَّ لِأَصْحَابِ طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَنَقَاءِ الرُّوحِ وَصَفَاءِ النُّفُوسِ، أَمَّا الَّذِينَ يَتَلَوَّثُونَ بِالْأَحْقَادِ وَالْأَحْسَادِ، أَمَّا الَّذِينَ تَجْرِي فِي عُرُوقِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورُ مِنْ مَذْمُومِ الْخِصَالِ؛ فَهُمْ عَنِ الْغُفْرَانِ بِمَبْعَدَةٍ.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ...)) ((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ...))؛ فَالْمُشْرِكُ لاَ يُغْفَرُ لَهُ، الْمُؤْمِنُ يُغْفَرُ لَهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ، ((فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، ((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))، مَذْمُومِ الْخِصَالِ، وَرَدِيءِ الصِّفَاتِ، مِنَ الْأَخْلاَقِ الْكَلْبِيَّةِ وَالْأَخْلاَقِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تَتَوَثَّبُ فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالَّتِي لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَأَبْصَرَتْ بَصَائِرُ الْبَصَائِرِ عَنْ أَمْرٍ عَجِيبٍ؛ فَمَا بَيْنَ كَلْبٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُكَشِّرُ عَنْ أَنْيَابِهِ، وَمَا بَيْنَ سَبُعٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ قَدْ تَوَثَّبَ لِلانْقِضَاضِ عَلَى فَرِيسَةٍ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ لِلانْقِضَاضِ عَلَيْهَا، بِأَخْلاَقٍ كَلْبِيَّةٍ، وَأَخْلاَقٍ سَبُعِيَّةٍ، وَأَخْلاَقٍ خِنْزِيرِيَّةٍ، وَأَمَّا الْأَخْلاَقُ النَّبَوِيَّةُ الْمُصَطَفَوِيَّةُ فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ لِلْأَفْذَاذِ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ -اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!-.

((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ))؛ فَلاَ بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْغُفْرَانَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الشِّرْكِ، وَأَنْ يَحْذَرَهُ، وَأَنْ يُجَانِبَهُ، وَأَنْ يُحَادَّهُ، وَأَنْ يُشَاقَّهُ - ظَاهِراً وَبَاطِناً -.

((أَوْ مُشَاحِنٍ))؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لاَ يُحِبُّ الشَّحْنَاءَ، إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيمَا أَخْبَرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُحِبُّهُ مِنْ خِصَالِ بَنِي آدَمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلاَ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْخِصَالِ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلاَقِ - وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).

تَدْرِي مَا سَفْسَافُهَا؟

قَدْ تَنْزَلِقُ فِي ذَلِكَ قَدَمُكَ، بِتِلْكَ الشَّبَكَةِ الْمَلْعُونَةِ، مِنْ تِلْكَ الشَّبَكَةِ الَّتِي تُنْصَبُ لَكَ؛ لِتَدْخُلَ فِي فِخَاخِهَا، هِيَ شَبَكَةٌ كَشَبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِ، تَأْتِي الذُّبَابَةُ مُؤَمِّلَةً، فَإِذَا مَا وَقَعَتْ لاَ تَسْتَطِيعُ فَكَاكاً.

نَعَم! قَدْ تَنْزَلِقُ الْقَدَمُ، فَمَا يَزَالُ يَجُرُّكَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ؛ لِيُوَرِطَّكَ فِي خُلِقٍ ذَمِيمٍ؛ لِيُقِيمَكَ عَلَى خُلُقٍ ذَمِيمٍ؛ لِيَنْحَدِرَ بِكَ عَنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَاكاً، وَلاَ عَنْهُ انْصِرَافاً، وَلاَ مِنْهُ خَلاَصاً، وَيَزَالُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الدَّوَّامَةِ الْمَلْعُونَةِ مِنْ حَطِيطِ وَسَافِلِ الْخِصَالِ، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُؤَمِّلُ، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيَرْجُو، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُحَاوِلُ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ الطَّرِيقَ، وَمَنْ فَقَدَ الطَّرِيقَ وَأَضَلَّهُ الطَّرِيقُ فَلَيْسَ عَلَى طَرِيقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَائِرٌ تَائِهٌ فِي الْمَتَاهَةِ لاَ يُفِيقُ، وَإِنَّمَا عَلَى الْآخِرَةِ يُفِيقُ.



وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! مَا أَغْفَلَهُ.

وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَهُوَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ وَقَدْ مَالَتْ كِفَّةُ الْمَوْتِ.

وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَإِنَّهُ لَعَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَتَلَدَّدُ؛ لِأَنَّهُ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ لِاقْتِنَاصِ لَذَّةٍ، وَالتَّوَثُّبِ لِلْحُصُولِ عَلَى شَهْوَةٍ، وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَنْطِقِ الذُّبَابِ, الْمِسْكِينُ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَنْطِقِ الذُّبَابِ، يَقِفُ عَلَى حَافَةِ الْإِنَاءِ فِيهِ الْعَسَلُ يَقُولُ: مَنْ يُوَصِّلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ قَالَ: مَنْ يُخْرِجُنِي مِنْهُ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ؟!!!

فَيَا أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ الذُّبَابِيِّ! حَنَانَيْكُمْ، دُونَكُمُ الطَّرِيقَ، دَلَّكُمْ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ بِكُمْ شَفِيقٌ، وَبِكُمْ رَحِيمٌ رَفِيقٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ ((إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا))، السَّفْسَافُ كَالْعَسَلِ فِي ظَاهِرِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ كَالذُّبَابِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ وَلاَ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ.

فَحَذَارِ، فَحَذَارِ، فَحَذَارِ أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ.

كُنْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ: ((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)) ((وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَى يَدَعُوهُ))؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَخَلَّصَ فِي عُبُودِيَّةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ: مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الْحِقْدِ خَاصَّةً - فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ -؛ ((وَيَدَعُ -يَتْرُكُ- أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ)).

الْحِقْدُ مَا هُوَ؟

الْإِنْسَانُ إِذَا مَا اسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ -كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، وَلَكِنْ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ - فَيَجْعَلُ غَضَبَهُ عَلَى مِقْيَاسِ الشَّرْعِ نَافِذاً، وَيَجْعَلُ أَثَرَهُ بِمِقْيَاسِ الشَّرْعِ فَاعِلاً، الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ - هُوَ الرَّجُلُ حَقًّا.

((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ...)) يَعْنِي: الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ وَلاَ يَصْرَعُونَهُ، ((وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))؛ فَهَذَا هُوَ الشَّدِيدُ حَقًّا.

فَإِنْ كَانَ ضَعِيفاً لاَ يَتَمَاسَكُ، مُتَهَالِكَ الْبُنْيَانِ؛ تَنْخَرُ فِي جَسَدِهِ الْأَمْرَاضُ، نَعَم! تَأْكُلُ حِيناً كَبِدَهُ حَتَّى لاَ تَدَعَ فِيهِ خَلِيَّةً فَاعِلَةً لاَ يَسْتَقِيمُ بِعَمَلِهَا حَيَاةٌ، وَيَعْدُو أَحْيَاناً عَلَى قَلْبِهِ فَيَأكُلُهُ أَكْلاً حَتَّى لاَ يَدَعَ فِيهِ شَيْئاً، وَلاَ يَصِحُّ حِينَئِذٍ - فِيهِ - أَنْ يُقَالَ: الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ، الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ؛ فَلْيَذْهَبْ مَزْجَرَ الْكَلْبِ، الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ.

النَّاسُ لاَ تَحْيَى بِالْأَجْسَادِ، تَحْيَى بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ مُعَلَّقَةً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، لاَ يَأْتِي مِنْ دَاخِلٍ, وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَى الرِّئَتَيْنِ فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ.

نَعَم! النَّاسُ تَحْيَى بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، بِرَصِيدِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، تَحْيَى فِي الْحَيَاةِ لاَ بِشَبَقٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ فِي كَثْرَةِ صِفَاتٍ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ، وَلاَ بِتَحَمُّلٍ يَمْضِي بِهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ الْبَغْلُ أَوِ الْجَمَلُ.

لاَ! وَإِنَّمَا هِيَ الْأَرْوَاحُ وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، بِرَصِيدٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ، يَبْذُلُ بِهِ الْمَرْءُ، بِكَلِمَةٍ صَالِحَةٍ، وَعَمَلٍ مُطْمَئِنٍّ عَلَى قَرَارٍ، بِعَقِيدَةٍ ثَابِتَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ؛ جَاءت الشَّهَادَةِ - إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -، وَالْأَمْرُ بَعْدُ بِيَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمُنْتَهى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

فَاللَّهُمَّ مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

يَكْرَهُ السَّفَاسِفَ، وَهَذَا الْحِقْدُ مَا هُوَ؟

الْغَضَبُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرْءُ لَهُ إِنْفَاذاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُخْرِجا؛ً كُظِمَ -لاَ دِيناً؛ وَإِنَّمَا عَجْزاً-؛ يَصِيرُ حِقْداً، يَسْتَثْقِلُ بِهِ الْمَرْءُ الْمَحْقُودَ عَلَيْهِ، يَسْتَثْقِلُهُ، يَكْرَهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِ، يَتَمَنَّى لَهُ الْهَلاَكَ، وَيَكْرَهُ لَهُ الْخَيْرُ، يَحْقِدُ عَلَيْهِ، كالجمل إِذَا أَنْفَذَ غَضَبَهُ مِنْ بَعْدِ كَظْمِهِ - وَكَانَ قَبْلُ كَظِيماً - فَإِذَا أُطْلِقَ، فَإِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُنْفِذُ غَضَبَهُ حِقْداً مَسْمُوماً.

يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: فُلاَنٌ أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ، أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ؛ فَيُنْفِذُ حِقْدَهُ بِغَيْرِ وَعْيٍ، حِقْدٌ مَجْنُونٌ.

يَقُولُ الْمَأْمُونُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، نَعَم! لَيْسُوا أَهْلاً لِلْمَغْفِرَةِ، لَيْسُوا أَهْلاً لِلاطِّلاَعِ عَلَيْهِمْ، ((يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))، وَفِي الْحَدِيثِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ اطَّلَعِ إِلَى خَلْقِهِ؛ فَيْغَفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ)).

يَطَّلِعُ وَيَتْرُكُ، يَتْرُكُ أَهْلَ الْحِقْدِ، مَحَلٌّ نَجِسٌ بِقَلْبٍ نَجِسٍ حَوَى زِبَالَةَ الصِّفَاتِ وَقُمَامَةَ الْعَادَاتِ, وَأَتَى بِأَحَطِّ دَرَكَاتِ الْأَخْلاَقِ وَالْخِصَالِ وَالشِّيَاةِ، هَذَا إِنَّمَا تَؤُمُّهُ كُلُّ الْحَشَرَاتِ الْحَيَّاتِ وَالنَّافِقَاتِ، هَذَا إِذَا مَا تَحُطُّ عَلَيْهِ الْهَوَامُّ الْبَغِيضَاتُ، هَذَا لَيْسَ أَهْلاً لِنُزُولِ الرَّحَمَاتِ، هَذَا مَاذَا يَكُونُ؟

هَذَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئاً؛ لَكُنَّا قَدْ مَدَحْنَاهُ، كَلاَ وَاللهِ! إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئاً؛ تَكُونُ قَدْ مَدَحْتَهُ، لاَ، هَذَا أَحَطُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ وَصْفٌ مُزْرٍ يَكُونُ بِهِ حَقِيقةً.

نَعَم! هَذَا قَلْبٌ؟!

لاَ؛ هَذَا قَلِيبٌ، لاَ؛ بَلْ هَذَا كَنِيفٌ!

لَيْسَ قَلْباً، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَلْبٌ، تَذُمُّ الْقُلُوبَ, إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ قَلْبٌ؛ فَقَدْ ذَمَمْتَ الْقُلُوبَ - قُلُوبَ الْأَحْيَاءِ -، تَنْبِضُ بِالْحَيَاةِ، بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ، تَسْتَمِدُّ الْحَيَاةَ بِقُدْرَةِ مُحْيي الْمَوْتَى، يُحِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقُدْرَتِهِ، بِإِحْيَائِهِ إِيَّاهَا، هَذِهِ الْقُلُوبُ تَكُونُ لَهَا هَاجِياً وِبِهَا مُزْرِياً إِنْ قُلْتَ: هَذَا الْقَلْبُ قَلْبُ، بَلْ هُوَ كَنِيفٌ، بَلْ هُوَ أَحَطُّ مَنْ ذَلِكَ؛ إِذِ الرَّجِيعُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ، إِمَّا بِذَاتِهِ - غِذَاءً لِلْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ -، وَإِمَّا بِالاسْتِحَالَةِ - عِنْدَمَا يَصِيرُ شَيْئاً آخَرَ -، وَأَمَّا هَذَا فَهَذَا مَاذَا؟!

((فَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، أَيَّتُهَا الْقُلُوبُ الشَّارِدَةُ وَالْأَرْوَاحُ النَّافِرَةُ! إِلَى أَيْنَ؟

إِلَى أَيْنَ؟!

إِنَّ الْعَبْدَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يِتَرَدَّدُ، وَقَدْ يُفْرَضُ عَلَيْهِ، يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضاً؛ فَلاَ يَنْبُعُ مِنْهُ نَبْعاً، وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضاً، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ مُحْيِي الْمَوْتَى، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَحُيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قَادِرٌ - هَوُ - وَقَدِيرٌ وَمُقْتَدِرٌ عَلَى أَنْ يَمُنَّ بِالْحَيَاةِ عَلَى الْجَسَدِ الَّذِي يُشَارِفُ أَنْ يُفَارِقَ الْحَيَاةَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ الْمُرْتَجِينَ، لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ يَرْتَجِيهِ؛ فَيَا رَبَّ الْعَالَمِينَ! وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ! لاَ تَقْطَعْ رَجَاءَ عِبَادِكَ فِيكَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.




الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً وَسَلاَماً دَائِمَيْنِ مُتَلاَزِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ الصَّفْحَ وَالتَّسَامُحَ وَالصَّبْرَ وَالْوَفَاءَ وَالْبَذْلَ - كُلُّ أُولَئِكَ - خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ وَشِيَاةٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ، قَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ خَلَلاً بِاخْتِلاَلِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ فِيهِ، نَعَم! بِاخْتِلاَلِ صِفَةٍ يَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا عِنْدَ تَفْتِيشِهِ فِي أَطْوَاءِ قَلْبِهِ وَمَطَاوِيهِ، فيَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا هُنَا، هُنَا خَلَلٌ يَحْتَاجُ إِصْلاَحاً، وَلاَ يُصْلِحُ الْقُلُوبَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَهَا، هُنَا, هَذَا الْخَلَلُ قَدْ يَلْتَهِمُ الْحَيَاةَ وَلاَ يُصْلَحُ، قَدْ يُمْضِي الْمَرْءُ عُمْرَهُ فِي إِصْلاَحِ خَلَلٍ وَاحِدٍ فِي مَنْظُومَةِ الْأَخْلاَقِ - وَهِيَ مَنْظُومَةٌ مُتَكَامِلَةٌ -؛ فَإِنَّ الْقِيَمَ لاَ تَتَبَعَّضُ، وَالْأَخْلاَقُ لاَ تَتَجَزَّأُ، نَعَم لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالاَتِ.

الْقِيَمُ لاَ تَتَبَعَّضُ، الْأَخْلاَقُ لاَ تَتَجَزَّأُ، لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ وَفِيّاً وَهُوَ خَائِنٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصاً وَهُوَ غَدَّارٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ بَذُولاً وَهُوَ شَحِيحٌ بَخِيلٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلاً لِخُلِقٍ فَاقِداً لِبَقِيَّةِ الْأَخْلاَقَ، لاَ تَتَجَزَّأُ الْقِيَمُ، كُلٌّ فَاعِلٌ بِحَيَاةٍ، فَإِذَا مَا تَجَزّآ صَارَا كَائِناً مُشَوَّهاً لاَ يَمُتُّ بِصِلَةٍ إِلَى الْأَخْلاَقِ.

الْقِيَمُ لاَ تَتَجَزَّأُ، وَالْأَخْلاَقُ لاَ تَتَبَعَّضُ، لاَ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ بِاعْتِبَارِ الْحَالاِتِ، يَعْنِي: تَأَتِي الْفُرْصَةُ السَّانِحَةُ لِلْخِيَانَةِ وَالْمَرْءُ عَلَى خُلُقِ الْوَفَاءِ، فَيُنَحِّيهِ جَانِباً وَيُوَاقِعُ الْخِيَانَةَ، ثُمَّ يَرْتَدِي لَبُوسَ الْوَفَاءِ!

لاَ؛ لاَ بِاعْتِبَارِ الْحَالاَتِ وَلاَ بِاعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعاً وَفِيّاً وَأُسْبُوعاً عَلَى الْغَدْرِ مُقِيماً، أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعاً مُخْلِصاً وَأُسْبُوعاً عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ قَائِمٌ وَدَائِمٌ وَمُقِيمٌ، لاَ تَتَبَعَّضُ لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالاَتِ.

فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ وَجَدْتَ الْأَخْلاَقَ كُلَّهَا مَجْمُوعَةً بِجَمْعِهَا مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجَالِ الْعَظَمَةِ فِيهِ جَعَلَتْ أَقْطَابَ الْقَائِمِينَ عَلَى عَظَمَتِهِ بِمُفْرَدِهَا مُنْحَازَةً إِلَيْهِ دَائِرَةً فِي فَلَكِهِ وَحَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَتَجِدُ عُمَرَ، بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّن كَانَ سَابِقاً إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَوَّلاً، تَجِدُ الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- تَجِدُ كُلاً فِيهِ مِنْ مَجَالِ الْعَظَمَةِ مَا قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ؛ فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُمَرُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُثْمَانُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عَلِيٌّ، وَهَكَذَا، فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلاَءِ عَظَمَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ وَقَعَتْ عَلَى مَا يُوَازِيها لاَ مَا يُسَاوِيها، وَلاَ مَا يُمَاثِلُهَا، وَلاَ مَا يُنَاظِرُهَا فِي رَسُولِ اللهِ، فَاجْتَمَعَ هَذَا كُلُّهُ فِيهِ؛ فَأَيُّ كَمَالٍ؟!

وَالْمَرْءُ يُحَاوِلُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْطِنِ الْخَلَلِ فِيهِ -فِي قَلْبِهِ-، فِي قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: ((إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ)) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُهْتَمَّ بِالْقَلْبِ فَوْقَ الاهْتِمَامِ بِالْجَسَدِ، أَنْ يُفَتَّشَ فِيهِ، وَأَنْ يُبْحَثَ فِي أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ الْخَلَلُ، وَحَتَّى يَدْرِيَ مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ الْإِصْلاَحَ فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَدَاعَى -أَوْ أَوْشَكَ عَلَى التَّدَاعِي-، فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَصَدَّعَ فَشَارَفَ التَّهَالُكَ مُتَهَدِّماً، حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِيهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَأَيُّ عَظَمَةٍ؟!

لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَهُ، إِنْ شِئْتَ الْكَمَالَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى أَتَمِّ مَا تَكُونُ فِي بَشَرٍ فَهِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ بَائِنَةٌ ظَاهِرَةٌ - بَاِئَنةٌ مِنَ الظُّهُورِ، لاَ مِنَ الْبَيْنِ وَالْبُعْدِ وَإِنَّمَا مِنَ الظُّهُورِ؛ فَقَدْ بَانَتْ فِيهِ - لاَ مِنْهُ وَلاَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّنَا عَلَى عِبَادَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ إِيمَانٌ بِاللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ: مِنْ شِرْكِ الْمُعْتَقَدِ، مِنْ شِرْكِ الضَّمِيرِ، مِنْ شِرْكِ الْقَلْبِ، مِنْ شِرْكِ اللِّسَانِ، مِنْ شِرْكِ الْجَوَارِحِ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ جُمْلَةً ظَاهِراً وَبَاطِناً، وَإِلاَّ فَلاَ غُفْرَانَ.

((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))، ((يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ))، تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، الْخُلُوصُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ أَوَّلَ مَا يُعْقَدُ عِنْدَ عَدِّ الْخِصَالِ وَعِنْدَ السَّيْرِ إِلَى الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ، فَهَذَا أَوَّلاً.

هَذِهِ الْعِبَادَةُ تَسْتَتْبِعُ حَتْماً طَهَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحِقْدِ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي يَدٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَرْءُ الْمَاءَ وَالنَّارَ قَدِ اجْتَمَعَا فِي يَدٍ، لاَ يُمْكِنُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ، وَكَذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الطُّهْرُ وَالنَّجَاسَةُ فِي مَحَلٍّ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ النُّورُ وَالظَّلاَمُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْحِقْدُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ التَّوْحِيدُ وَالشِّرْكُ فِي قَلْبٍ أَبَداً، ((وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، وَقَدِ اطَّلَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ بِجَانِبٍ وَبِمَبْعَدَةٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَيِّزِ التَّهْرِيجِ، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص: 88].

نَعَم! {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}؛ فَالْمَوْتُ أَقْرَبُ لِأَحَدِكُمْ مِنْ شَرَاكِ نَعْلِهِ.

نَعَم! إِنَّ الْمَوْتَ قَدْ تَبْقَى لَهُ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ بَرَأَ وَشُفِيَ، كَمْ مِنْ صَحِيحٍ هَلَكَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ نَجَا، وَلاَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ إِلاَّ اللهُ.

فَاللَّهُمَّ! يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ! وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ! -مُصَلِّينَ وَمُسَلِّمِينَ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ- نَسْأَلُكَ -يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!- أَنْ تَشْفِيَنَا، وَأَنْ تَشْفِيَ مَرْضَانَا، وَأَنْ تَشْفِيَ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ, وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ, وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ, أَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنَّا، وَأَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنْ إِخْوَانِنَا، اللَّهُمَّ! أَبْرِئْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ -يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ-.

اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا، وَاجْعَلْ آخِرَ كَلاَمِنَا مِنَ الدُّنْيَا ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



بين الموت والحياة

لفضيلة الشيخ الوالد/

محمد سعيد رسلان المصرى

أَمَّا بَعْدُ:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

أَمَّا بَعْدُ:

فَأَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مُعَلَّقاً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ فَتِلْكَ هِيَ الْحَيَاةُ فِي الْأَحْيَاءِ، وَلَكِنَّ الظَّوَاهِرَ أَحْيَاناً تُمِيلُ كِفَّةَ الْمَوْتِ فَيَبْدُو الْأَمْرُ إِلَى الْمَوْتِ مَائِلاً، وَقَدْ تَدُلُّ الظَّوَاهِرُ أَحْيَاناً عَلَى رُجْحَانِ كِفَّةِ الْحَيَاةِ؛ فَيَبْدُو الْأَمْرُ إِلَى الْحَيَاةِ مَائِلاً، وَلَكِنْ فِي الْحَيِّ الَّذِي يُشَارِفُ الْمَوْتَ تَمَاماً كَمَا فِي الْحَيِّ الَّذِي لاَ تَبْدُو عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْمَوْتِ يَصْدُقُ هَذَا الْكَلاَمُ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، وَالْحَيَاةُ فِي الْبَدْءِ وَفِي الْمُنْتَهَى بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ، يَهَبُ الْحَيَاةَ لِلْأَحْيَاءِ وَيَسْلُبُهَا مَتَى يَشَاءُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

إِنَّ الْأَحْيَاءَ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ يُلَوِّنُونَ الْحَيَاةَ بِأَلْوَانِ انْفِعَالاَتِهِمْ؛ فَالْفَرِحُ يُلَوِّنُ الْحَيَاةَ بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَكَأَنَّهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، وَالتَّعِسُ يُلَوِّنُ الْحَيَاةَ بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْحُزْنِ الدَّائِمِ وَالْبُؤْسِ الْمُقِيمِ، وَالْحَيَاةُ فِي النِّهَايَةِ هِيَ الْحَيَاةُ، لاَ تَتَلَوَّنُ بِلَوْنٍ يُلَوِّنُهَا بِهِ الْأَحْيَاءُ.

الْحَيَاةُ هِيَ الْحَيَاةُ.

وَالْإِنْسَانُ إِذَا آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، وَأَتَتْهُ الْبُشْرَى قَبْلَ الْمَمَاتِ، الْإِنْسَانُ إِذَا جَاءَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ مُقِيماً، وَكَانَ لِلْخَيْرِ مُوَاصِلاً، وَكَانَ عَلَى الْبِرِّ مُقْبِلاً، وَكَانَ فِي الْخَيْرَاتِ بَاذِلاً، إِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَطُوبَى، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى.

يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ))، فَهَذِهِ عَلاَمَةٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْخَيْرِ وَدَلاَلَةٌ مِنْ دَلاَلاَتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ يَذْكُرُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الصَّرِيحِ: ((مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ فَهُوَ شَهِيدٌ)).

وَكَانَ الْأَصْحَابُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَشْهَدُوا الْجَنَازَةَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، يَتَظَافَرُونَ مَعاً، وَيَتَعَاضَدُونَ إِعْلاَماً وَإِخْبَاراً وَحَثًّا وَحَضًّا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ؛ لِيَقِينِهِمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

وَالنِّهَايَةُ فِي النِّهَايَةِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ، النِّهَايَةُ فِي النِّهَايَةِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ، إِذَا قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحُسْنِهَا؛ فَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنْ تَبْقَى الْبُشْرَى، وَيَبْقَى مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، مَرِيضاً كَانَ أَمْ صَحِيحاً، دَانِياً مِنَ الْمَوْتِ مُشْرِفاً عَلَيْهِ مُعَانِياً لَهُ، أَوْ صَحِيحاً يَتَمَتَّعُ بِالصِّحَّةِ فَيَبْدُو عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَسْبَابِ بَعِيداً عَنْ مُوَاقَعَةِ الْمَوْتِ وَالْوُقُوعِ فِي هُوَّتِهِ.

تَفْنَى تِلْكَ الْأَشْيَاءُ بِمَظَاهِرِهَا وَتَبْقَى الْحَقَائِقُ وَحْدَهَا؛ فَكُلُّ مَا يُعَانِيهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ لاَ يُعَدُّ شَيْئاً فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى النِّهَايَةِ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا، وَالْمُنْتَهَى الَّذِي يَسْعَى إِلَيْهِ، يَسْعَى إِلَى الْمُنْتَهَى بِهِ مَرُّ اللَّيْلِ وَكَرُّ النَّهَارِ؛ لِيُوَاقِعَ فِي النِّهَايَةِ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِكَيْ يَأْتِيَ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى رَبِّهِ فَرِيداً وَحِيداً كَمَا خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ مَبْذُولَةً لِلّهِ، إِذَا كَانَ الْمَرْءُ سَاعِياً إِلَى اللهِ، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ حَرِيصاً عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ، إِذَا كَانَتِ النَّزَوَاتُ بَعِيدَةً، وَالشَّهَوَاتُ مُضْمَحِلَّةً، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى رَبِّهِ مُقْبِلاً، وَعَنِ الشَّهَوَاتِ مُدْبِراً، وَلِهَذَا الدِّينِ بَاذِلاً؛ فَمَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ، مَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ؛ أَلاَ إِنَّهَا الْبِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِلْحَيَاةِ الْحَقِّ، بَعْدَ ذَهَابِ الْوَهْمِ وَبَعْدَ فَنَاءِ الْخَيَالِ تَبْقَى الْحَقِيقَةُ -وَالْحَقِيقَةُ وَحْدَهَا-.

صَحِيحٌ! أَنّهُ قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ صَاحِبٌ صَحِيحٌ، فِي الْحَيَاةِ كُلِّهَا بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ فِيهَا صَاحِبٌ صَحِيحٌ؛ فَتَفْقِدُ بِفَقْدِهِ بَعْضَكَ، تَفْقِدُ بِفَقْدِهِ بَعْضَكَ، وَيَتَلَدَّدُ لِفَقْدِهِ بَدَنُكَ وَجَسَدُكَ وَقَلْبُكَ.

صَحِيحٌ! قَدْ لاَ يَصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ رَفِيقٌ وَلاَ حَبِيبٌ، وَتَبْقَى فِي الْوَحْشَةِ تُعَانِيها وَتُعَانِيكَ، وَتُزَاوِلُهَا وَتُزَاوِلُكَ، تَبْقَى فَرِيداً غَرِيباً فِي صَحْرَوَاتٍ لَيْسَ لَهَا بَدْءٌ وَلاَ مُنْتَهَى، فِي هَذِهِ الْوَحْشَةِ وَهَذِهِ الْغُرْبَةِ، وَلاَ أَنِيسَ إِلاَّ اللهُ - هُوَ الْحَيُّ الْبَاقِي الَّذِي لاَ يَزُولُ -.

صَحِيحٌ! أَنَّهُ قَدْ لاَ يِصِحُّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا - قَدْ لاَ يَصِحُّ - صَاحِبٌ وَلاَ صَدِيقٌ وَلاَ رَفِيقٌ صَحِيحٌ، فَإِذَا صَحَّ ثُمَّ فُقِدَ؛ فَقَدْ فَقَدْتَ بَعْضَكَ، فَقْدَتْ قَلْبَكَ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِدُ قَلْبُهُ مُسْتَقَرَّهُ.

يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ!

يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ!

يَا لَانْصِدَاعَ الْقَلْبِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَسْرَةَ! بِنِيرَانِهَا الَّتِي تَتَلَظَّى، وَبِلَهِيبِهَا الَّذِي يَتَلَهَّبُ بَيْنَ الْجَوَانِحِ كَاوِياً، وَفِي الْأَحْشَاءِ نَافِذاً، وَعَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَنْبِضُ الْقَلْبُ.

وَلَكِنْ! هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ بِحَقِيقَةِ الْحَيَاةِ - وَلَيْسَتْ إِلاَّ الْحَيَاةَ -.

كَيْفَ الْخَلاَصُ؟

الْخَلاَصُ فِي الْإِخْلاَصِ، وَلاَ صَلاَحَ لِلْبَدَنِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، لاَ صَلاَحَ لِلْبَدَنِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ.

نَعَم! فَلْتُكْبَتُ الْعَوَاطِفُ جَانِباً.

نَعَم! فَلْيَسْتَعْلِ الْمَرْءُ فَوْقَ نَصْلٍ مَسْمُومٍ يُغْرَسُ فِي قَلْبِهِ وَيُدْفَنُ فِي فُؤَادِهِ؛ فَمَا لِاسْتِفْزَازِ الْعَوَاطِفِ خُلِقْنَا، وَإِنَّمَا لِكَبْحِ جِمَاحِهَا وُجِدْنَا؛ فَلْيَسْتَعْلِ الْمَرْءُ فَوْقَ عَوَاطِفِهِ، وَلْيَنْظُرْ إِلَى حَقِيقَةِ الْحَيَاةِ؛ لِيَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي مُنْتَهَاهُ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَى اللهِ.

نَعَم! لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ حَالٍ لَبُوسُهَا.

نَعَم! هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَتَفَاعَلُ بِهِ الْقُلُوبُ، تَحْيَى بِهِ الْأَرْوَاحُ، تَغْتَذِي بِنُصُوصِهِ النُّفُوسُ، تَحْيَى عَلَيْهِ الْأَجْسَادُ، وَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ.

نَعَم! إِنَّمَا هِيَ الْمَسِيرَةُ تُقْطَعُ طَالَتْ أَمْ قَصُرَتْ، وَلَكِنَّ الْمُنْتَهَى مَعْلُومٌ، لِذَلِكَ؛ عِنْدَمَا يَدْهَمُنَا الْمَرَضُ، وَتُنْشَبُ أَظَافِرُهُ الْحَدِيدِيَّةُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَكْبَادِ لَيْسِ مِنْهَا فَكَاكٌ إِلاَّ بِرَحْمَةِ رَبِّ الْعِبَادِ.

عِنْدَمَا يَأْتِي الْمَرَضُ وَيُعَانِي مِنْهُ الْعَبْدُ مَا يُعَانِي، لَيْسَ الْخَوْفُ هَاهُنَا مِنَ الْمَوْتِ؛ فَالْمَوْتُ عِنْدَمَا يَأْتِي يَأْتِي فِي مَوْعدِه،ِ لاَ يَتَقَدَّمُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ عَنْ مَوْعِدِهِ، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد: 8].

كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمِقْدَارٍ، لاَ يَتَقَدَّمُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ، وَإِنَّمَا يَأْتِي فِي مَوْعِدِهِ، وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْأَسَى يُرْفَعُ، وَإِنَّ الْإِشْفَاقَ يَضْمَحِلُّ، هَاهُنَا تَعَامُلٌ مَعَ حَقِيقَةٍ قَائِمَةٍ كَأَنَّهَا فِي النِّهَايَةِ -بَلْ هِيَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ- حَقِيقَةٌ رِيَاضِيَّةٌ حَاسِمَةٌ جَازِمَةٌ وَاقِعَةٌ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا لَبْسٌ وَلاَ الْتِوَاءٌ، حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ؛ فَمَا الشَّأْنُ -إِذَنْ-؟

الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَى فِيهَا الْإِنْسَانُ مُتَخَبِّطاً كَأَنَّمَا يَسِيرُ فِيهَا نَائِماً، الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَفْسَدُ فِيهَا الْقَلْبُ؛ فَيَفْسَدُ الْجَسَدُ وَتَفْسَدُ الْحَيَاةُ، مَا الشَّأْنُ -إِذَنْ-؟

الشَّأْنُ فِي هَذَا الْقَلْبِ الَّذِي لاَ يَسْتَقِيمُ عَلَى صِرَاطٍ، وَإِنَّمَا هُوَ -وَكُمَا سُمِّيَ- دَائِمٌ فِي تَقَلُّبِهِ، وَمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْباً إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ، هَذَا هُوَ الشَّأْنُ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ الْمَرْءُ؟ كَيْفَ تَصْلُحُ الْحَيَاةُ؟

كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ))، ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)).



كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟

يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ، هَذَا صَلاَحُ الْقَلْبِ.

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ؛ ((إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ))، ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً)) قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ - صَغِيرَةٌ هِيَ -، ((إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)) هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلاَ صَلاَحَ إِلاَّ بِصَلاَحٍ، لاَ صَلاَحَ لِلْجَسَدِ لاَ صَلاَحَ لِلْحَيَاةِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ - كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ وَفَسَدَتِ الْحَيَاةُ.

كَيْفَ صَلاَحُ الْقَلْبِ -إِذَنْ-؟

بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْغُفْرَانَ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ- أَنَّهُ ((إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ اطَّلَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ؛ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ)).

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((يَطَّلِعُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى خِلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)).

فَهَذِه هِيَ الْخِصَالُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَبْرَأَ مِنْهَا الْقَلْبُ؛ لِيَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ، قَبْلَ دُنُوِّ النِّهَايَةِ الَّتِي لاَ تُعْلَمُ، الَّتِي تَقُولُ الشَّوَاهِدُ إِنَّهَا دَانِيَةٌ - وَإِنْ غَفَلَ عَنْ دُنُوِّهَا الْغَافِلُونَ -، الَّتِي تَقُولُ الظَّوَاهِرُ إِنَّهَا قَرِيبَةٌ - وَإِنِ اسْتَبْعَدَتْهَا الظُّنُونُ, وَاسْتَبْعَدَتْهَا الْأَوْهَامُ -.

قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ النِّهَايَةُ، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ؛ فَدُونَهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلاَ - لاَ يَغْفِرُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، لاَ يَغْفِرُ إِلاَّ لِلْمُوَحِّدِينَ، لاَ يَغْفِرُ إِلاَّ لِأَصْحَابِ طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَنَقَاءِ الرُّوحِ وَصَفَاءِ النُّفُوسِ، أَمَّا الَّذِينَ يَتَلَوَّثُونَ بِالْأَحْقَادِ وَالْأَحْسَادِ، أَمَّا الَّذِينَ تَجْرِي فِي عُرُوقِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورُ مِنْ مَذْمُومِ الْخِصَالِ؛ فَهُمْ عَنِ الْغُفْرَانِ بِمَبْعَدَةٍ.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ...)) ((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ...))؛ فَالْمُشْرِكُ لاَ يُغْفَرُ لَهُ، الْمُؤْمِنُ يُغْفَرُ لَهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ، ((فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، ((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))، مَذْمُومِ الْخِصَالِ، وَرَدِيءِ الصِّفَاتِ، مِنَ الْأَخْلاَقِ الْكَلْبِيَّةِ وَالْأَخْلاَقِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تَتَوَثَّبُ فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالَّتِي لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَأَبْصَرَتْ بَصَائِرُ الْبَصَائِرِ عَنْ أَمْرٍ عَجِيبٍ؛ فَمَا بَيْنَ كَلْبٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُكَشِّرُ عَنْ أَنْيَابِهِ، وَمَا بَيْنَ سَبُعٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ قَدْ تَوَثَّبَ لِلانْقِضَاضِ عَلَى فَرِيسَةٍ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ لِلانْقِضَاضِ عَلَيْهَا، بِأَخْلاَقٍ كَلْبِيَّةٍ، وَأَخْلاَقٍ سَبُعِيَّةٍ، وَأَخْلاَقٍ خِنْزِيرِيَّةٍ، وَأَمَّا الْأَخْلاَقُ النَّبَوِيَّةُ الْمُصَطَفَوِيَّةُ فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ لِلْأَفْذَاذِ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ -اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!-.

((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ))؛ فَلاَ بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْغُفْرَانَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الشِّرْكِ، وَأَنْ يَحْذَرَهُ، وَأَنْ يُجَانِبَهُ، وَأَنْ يُحَادَّهُ، وَأَنْ يُشَاقَّهُ - ظَاهِراً وَبَاطِناً -.

((أَوْ مُشَاحِنٍ))؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لاَ يُحِبُّ الشَّحْنَاءَ، إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيمَا أَخْبَرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُحِبُّهُ مِنْ خِصَالِ بَنِي آدَمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلاَ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْخِصَالِ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلاَقِ - وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).

تَدْرِي مَا سَفْسَافُهَا؟

قَدْ تَنْزَلِقُ فِي ذَلِكَ قَدَمُكَ، بِتِلْكَ الشَّبَكَةِ الْمَلْعُونَةِ، مِنْ تِلْكَ الشَّبَكَةِ الَّتِي تُنْصَبُ لَكَ؛ لِتَدْخُلَ فِي فِخَاخِهَا، هِيَ شَبَكَةٌ كَشَبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِ، تَأْتِي الذُّبَابَةُ مُؤَمِّلَةً، فَإِذَا مَا وَقَعَتْ لاَ تَسْتَطِيعُ فَكَاكاً.

نَعَم! قَدْ تَنْزَلِقُ الْقَدَمُ، فَمَا يَزَالُ يَجُرُّكَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ؛ لِيُوَرِطَّكَ فِي خُلِقٍ ذَمِيمٍ؛ لِيُقِيمَكَ عَلَى خُلُقٍ ذَمِيمٍ؛ لِيَنْحَدِرَ بِكَ عَنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَاكاً، وَلاَ عَنْهُ انْصِرَافاً، وَلاَ مِنْهُ خَلاَصاً، وَيَزَالُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الدَّوَّامَةِ الْمَلْعُونَةِ مِنْ حَطِيطِ وَسَافِلِ الْخِصَالِ، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُؤَمِّلُ، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيَرْجُو، لاَ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُحَاوِلُ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ الطَّرِيقَ، وَمَنْ فَقَدَ الطَّرِيقَ وَأَضَلَّهُ الطَّرِيقُ فَلَيْسَ عَلَى طَرِيقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَائِرٌ تَائِهٌ فِي الْمَتَاهَةِ لاَ يُفِيقُ، وَإِنَّمَا عَلَى الْآخِرَةِ يُفِيقُ.



وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! مَا أَغْفَلَهُ.

وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَهُوَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ وَقَدْ مَالَتْ كِفَّةُ الْمَوْتِ.

وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَإِنَّهُ لَعَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَتَلَدَّدُ؛ لِأَنَّهُ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ لِاقْتِنَاصِ لَذَّةٍ، وَالتَّوَثُّبِ لِلْحُصُولِ عَلَى شَهْوَةٍ، وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَنْطِقِ الذُّبَابِ, الْمِسْكِينُ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَنْطِقِ الذُّبَابِ، يَقِفُ عَلَى حَافَةِ الْإِنَاءِ فِيهِ الْعَسَلُ يَقُولُ: مَنْ يُوَصِّلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ قَالَ: مَنْ يُخْرِجُنِي مِنْهُ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ؟!!!

فَيَا أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ الذُّبَابِيِّ! حَنَانَيْكُمْ، دُونَكُمُ الطَّرِيقَ، دَلَّكُمْ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ بِكُمْ شَفِيقٌ، وَبِكُمْ رَحِيمٌ رَفِيقٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ ((إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا))، السَّفْسَافُ كَالْعَسَلِ فِي ظَاهِرِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ كَالذُّبَابِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ وَلاَ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ.

فَحَذَارِ، فَحَذَارِ، فَحَذَارِ أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ.

كُنْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ: ((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)) ((وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَى يَدَعُوهُ))؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَخَلَّصَ فِي عُبُودِيَّةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ: مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الْحِقْدِ خَاصَّةً - فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ -؛ ((وَيَدَعُ -يَتْرُكُ- أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ)).

الْحِقْدُ مَا هُوَ؟

الْإِنْسَانُ إِذَا مَا اسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ -كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، وَلَكِنْ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ - فَيَجْعَلُ غَضَبَهُ عَلَى مِقْيَاسِ الشَّرْعِ نَافِذاً، وَيَجْعَلُ أَثَرَهُ بِمِقْيَاسِ الشَّرْعِ فَاعِلاً، الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ - هُوَ الرَّجُلُ حَقًّا.

((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ...)) يَعْنِي: الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ وَلاَ يَصْرَعُونَهُ، ((وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))؛ فَهَذَا هُوَ الشَّدِيدُ حَقًّا.

فَإِنْ كَانَ ضَعِيفاً لاَ يَتَمَاسَكُ، مُتَهَالِكَ الْبُنْيَانِ؛ تَنْخَرُ فِي جَسَدِهِ الْأَمْرَاضُ، نَعَم! تَأْكُلُ حِيناً كَبِدَهُ حَتَّى لاَ تَدَعَ فِيهِ خَلِيَّةً فَاعِلَةً لاَ يَسْتَقِيمُ بِعَمَلِهَا حَيَاةٌ، وَيَعْدُو أَحْيَاناً عَلَى قَلْبِهِ فَيَأكُلُهُ أَكْلاً حَتَّى لاَ يَدَعَ فِيهِ شَيْئاً، وَلاَ يَصِحُّ حِينَئِذٍ - فِيهِ - أَنْ يُقَالَ: الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ، الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ؛ فَلْيَذْهَبْ مَزْجَرَ الْكَلْبِ، الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ.

النَّاسُ لاَ تَحْيَى بِالْأَجْسَادِ، تَحْيَى بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ مُعَلَّقَةً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، لاَ يَأْتِي مِنْ دَاخِلٍ, وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَى الرِّئَتَيْنِ فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ.

نَعَم! النَّاسُ تَحْيَى بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، بِرَصِيدِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، تَحْيَى فِي الْحَيَاةِ لاَ بِشَبَقٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ فِي كَثْرَةِ صِفَاتٍ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ، وَلاَ بِتَحَمُّلٍ يَمْضِي بِهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ الْبَغْلُ أَوِ الْجَمَلُ.

لاَ! وَإِنَّمَا هِيَ الْأَرْوَاحُ وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، بِرَصِيدٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ، يَبْذُلُ بِهِ الْمَرْءُ، بِكَلِمَةٍ صَالِحَةٍ، وَعَمَلٍ مُطْمَئِنٍّ عَلَى قَرَارٍ، بِعَقِيدَةٍ ثَابِتَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ؛ جَاءت الشَّهَادَةِ - إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -، وَالْأَمْرُ بَعْدُ بِيَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمُنْتَهى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

فَاللَّهُمَّ مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

يَكْرَهُ السَّفَاسِفَ، وَهَذَا الْحِقْدُ مَا هُوَ؟

الْغَضَبُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرْءُ لَهُ إِنْفَاذاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُخْرِجا؛ً كُظِمَ -لاَ دِيناً؛ وَإِنَّمَا عَجْزاً-؛ يَصِيرُ حِقْداً، يَسْتَثْقِلُ بِهِ الْمَرْءُ الْمَحْقُودَ عَلَيْهِ، يَسْتَثْقِلُهُ، يَكْرَهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِ، يَتَمَنَّى لَهُ الْهَلاَكَ، وَيَكْرَهُ لَهُ الْخَيْرُ، يَحْقِدُ عَلَيْهِ، كالجمل إِذَا أَنْفَذَ غَضَبَهُ مِنْ بَعْدِ كَظْمِهِ - وَكَانَ قَبْلُ كَظِيماً - فَإِذَا أُطْلِقَ، فَإِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُنْفِذُ غَضَبَهُ حِقْداً مَسْمُوماً.

يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: فُلاَنٌ أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ، أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ؛ فَيُنْفِذُ حِقْدَهُ بِغَيْرِ وَعْيٍ، حِقْدٌ مَجْنُونٌ.

يَقُولُ الْمَأْمُونُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، نَعَم! لَيْسُوا أَهْلاً لِلْمَغْفِرَةِ، لَيْسُوا أَهْلاً لِلاطِّلاَعِ عَلَيْهِمْ، ((يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))، وَفِي الْحَدِيثِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ اطَّلَعِ إِلَى خَلْقِهِ؛ فَيْغَفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ)).

يَطَّلِعُ وَيَتْرُكُ، يَتْرُكُ أَهْلَ الْحِقْدِ، مَحَلٌّ نَجِسٌ بِقَلْبٍ نَجِسٍ حَوَى زِبَالَةَ الصِّفَاتِ وَقُمَامَةَ الْعَادَاتِ, وَأَتَى بِأَحَطِّ دَرَكَاتِ الْأَخْلاَقِ وَالْخِصَالِ وَالشِّيَاةِ، هَذَا إِنَّمَا تَؤُمُّهُ كُلُّ الْحَشَرَاتِ الْحَيَّاتِ وَالنَّافِقَاتِ، هَذَا إِذَا مَا تَحُطُّ عَلَيْهِ الْهَوَامُّ الْبَغِيضَاتُ، هَذَا لَيْسَ أَهْلاً لِنُزُولِ الرَّحَمَاتِ، هَذَا مَاذَا يَكُونُ؟

هَذَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئاً؛ لَكُنَّا قَدْ مَدَحْنَاهُ، كَلاَ وَاللهِ! إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئاً؛ تَكُونُ قَدْ مَدَحْتَهُ، لاَ، هَذَا أَحَطُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ وَصْفٌ مُزْرٍ يَكُونُ بِهِ حَقِيقةً.

نَعَم! هَذَا قَلْبٌ؟!

لاَ؛ هَذَا قَلِيبٌ، لاَ؛ بَلْ هَذَا كَنِيفٌ!

لَيْسَ قَلْباً، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَلْبٌ، تَذُمُّ الْقُلُوبَ, إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ قَلْبٌ؛ فَقَدْ ذَمَمْتَ الْقُلُوبَ - قُلُوبَ الْأَحْيَاءِ -، تَنْبِضُ بِالْحَيَاةِ، بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ، تَسْتَمِدُّ الْحَيَاةَ بِقُدْرَةِ مُحْيي الْمَوْتَى، يُحِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقُدْرَتِهِ، بِإِحْيَائِهِ إِيَّاهَا، هَذِهِ الْقُلُوبُ تَكُونُ لَهَا هَاجِياً وِبِهَا مُزْرِياً إِنْ قُلْتَ: هَذَا الْقَلْبُ قَلْبُ، بَلْ هُوَ كَنِيفٌ، بَلْ هُوَ أَحَطُّ مَنْ ذَلِكَ؛ إِذِ الرَّجِيعُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ، إِمَّا بِذَاتِهِ - غِذَاءً لِلْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ -، وَإِمَّا بِالاسْتِحَالَةِ - عِنْدَمَا يَصِيرُ شَيْئاً آخَرَ -، وَأَمَّا هَذَا فَهَذَا مَاذَا؟!

((فَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، أَيَّتُهَا الْقُلُوبُ الشَّارِدَةُ وَالْأَرْوَاحُ النَّافِرَةُ! إِلَى أَيْنَ؟

إِلَى أَيْنَ؟!

إِنَّ الْعَبْدَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يِتَرَدَّدُ، وَقَدْ يُفْرَضُ عَلَيْهِ، يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضاً؛ فَلاَ يَنْبُعُ مِنْهُ نَبْعاً، وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضاً، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ مُحْيِي الْمَوْتَى، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَحُيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قَادِرٌ - هَوُ - وَقَدِيرٌ وَمُقْتَدِرٌ عَلَى أَنْ يَمُنَّ بِالْحَيَاةِ عَلَى الْجَسَدِ الَّذِي يُشَارِفُ أَنْ يُفَارِقَ الْحَيَاةَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ الْمُرْتَجِينَ، لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ يَرْتَجِيهِ؛ فَيَا رَبَّ الْعَالَمِينَ! وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ! لاَ تَقْطَعْ رَجَاءَ عِبَادِكَ فِيكَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.




الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً وَسَلاَماً دَائِمَيْنِ مُتَلاَزِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ الصَّفْحَ وَالتَّسَامُحَ وَالصَّبْرَ وَالْوَفَاءَ وَالْبَذْلَ - كُلُّ أُولَئِكَ - خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ وَشِيَاةٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ، قَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ خَلَلاً بِاخْتِلاَلِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ فِيهِ، نَعَم! بِاخْتِلاَلِ صِفَةٍ يَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا عِنْدَ تَفْتِيشِهِ فِي أَطْوَاءِ قَلْبِهِ وَمَطَاوِيهِ، فيَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا هُنَا، هُنَا خَلَلٌ يَحْتَاجُ إِصْلاَحاً، وَلاَ يُصْلِحُ الْقُلُوبَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَهَا، هُنَا, هَذَا الْخَلَلُ قَدْ يَلْتَهِمُ الْحَيَاةَ وَلاَ يُصْلَحُ، قَدْ يُمْضِي الْمَرْءُ عُمْرَهُ فِي إِصْلاَحِ خَلَلٍ وَاحِدٍ فِي مَنْظُومَةِ الْأَخْلاَقِ - وَهِيَ مَنْظُومَةٌ مُتَكَامِلَةٌ -؛ فَإِنَّ الْقِيَمَ لاَ تَتَبَعَّضُ، وَالْأَخْلاَقُ لاَ تَتَجَزَّأُ، نَعَم لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالاَتِ.

الْقِيَمُ لاَ تَتَبَعَّضُ، الْأَخْلاَقُ لاَ تَتَجَزَّأُ، لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ وَفِيّاً وَهُوَ خَائِنٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصاً وَهُوَ غَدَّارٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ بَذُولاً وَهُوَ شَحِيحٌ بَخِيلٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلاً لِخُلِقٍ فَاقِداً لِبَقِيَّةِ الْأَخْلاَقَ، لاَ تَتَجَزَّأُ الْقِيَمُ، كُلٌّ فَاعِلٌ بِحَيَاةٍ، فَإِذَا مَا تَجَزّآ صَارَا كَائِناً مُشَوَّهاً لاَ يَمُتُّ بِصِلَةٍ إِلَى الْأَخْلاَقِ.

الْقِيَمُ لاَ تَتَجَزَّأُ، وَالْأَخْلاَقُ لاَ تَتَبَعَّضُ، لاَ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ بِاعْتِبَارِ الْحَالاِتِ، يَعْنِي: تَأَتِي الْفُرْصَةُ السَّانِحَةُ لِلْخِيَانَةِ وَالْمَرْءُ عَلَى خُلُقِ الْوَفَاءِ، فَيُنَحِّيهِ جَانِباً وَيُوَاقِعُ الْخِيَانَةَ، ثُمَّ يَرْتَدِي لَبُوسَ الْوَفَاءِ!

لاَ؛ لاَ بِاعْتِبَارِ الْحَالاَتِ وَلاَ بِاعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعاً وَفِيّاً وَأُسْبُوعاً عَلَى الْغَدْرِ مُقِيماً، أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعاً مُخْلِصاً وَأُسْبُوعاً عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ قَائِمٌ وَدَائِمٌ وَمُقِيمٌ، لاَ تَتَبَعَّضُ لاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلاَ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالاَتِ.

فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ وَجَدْتَ الْأَخْلاَقَ كُلَّهَا مَجْمُوعَةً بِجَمْعِهَا مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجَالِ الْعَظَمَةِ فِيهِ جَعَلَتْ أَقْطَابَ الْقَائِمِينَ عَلَى عَظَمَتِهِ بِمُفْرَدِهَا مُنْحَازَةً إِلَيْهِ دَائِرَةً فِي فَلَكِهِ وَحَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَتَجِدُ عُمَرَ، بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّن كَانَ سَابِقاً إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَوَّلاً، تَجِدُ الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- تَجِدُ كُلاً فِيهِ مِنْ مَجَالِ الْعَظَمَةِ مَا قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ؛ فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُمَرُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُثْمَانُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عَلِيٌّ، وَهَكَذَا، فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلاَءِ عَظَمَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ وَقَعَتْ عَلَى مَا يُوَازِيها لاَ مَا يُسَاوِيها، وَلاَ مَا يُمَاثِلُهَا، وَلاَ مَا يُنَاظِرُهَا فِي رَسُولِ اللهِ، فَاجْتَمَعَ هَذَا كُلُّهُ فِيهِ؛ فَأَيُّ كَمَالٍ؟!

وَالْمَرْءُ يُحَاوِلُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْطِنِ الْخَلَلِ فِيهِ -فِي قَلْبِهِ-، فِي قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: ((إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ)) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُهْتَمَّ بِالْقَلْبِ فَوْقَ الاهْتِمَامِ بِالْجَسَدِ، أَنْ يُفَتَّشَ فِيهِ، وَأَنْ يُبْحَثَ فِي أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ الْخَلَلُ، وَحَتَّى يَدْرِيَ مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ الْإِصْلاَحَ فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَدَاعَى -أَوْ أَوْشَكَ عَلَى التَّدَاعِي-، فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَصَدَّعَ فَشَارَفَ التَّهَالُكَ مُتَهَدِّماً، حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِيهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَأَيُّ عَظَمَةٍ؟!

لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَهُ، إِنْ شِئْتَ الْكَمَالَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى أَتَمِّ مَا تَكُونُ فِي بَشَرٍ فَهِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ بَائِنَةٌ ظَاهِرَةٌ - بَاِئَنةٌ مِنَ الظُّهُورِ، لاَ مِنَ الْبَيْنِ وَالْبُعْدِ وَإِنَّمَا مِنَ الظُّهُورِ؛ فَقَدْ بَانَتْ فِيهِ - لاَ مِنْهُ وَلاَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّنَا عَلَى عِبَادَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ إِيمَانٌ بِاللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ: مِنْ شِرْكِ الْمُعْتَقَدِ، مِنْ شِرْكِ الضَّمِيرِ، مِنْ شِرْكِ الْقَلْبِ، مِنْ شِرْكِ اللِّسَانِ، مِنْ شِرْكِ الْجَوَارِحِ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ جُمْلَةً ظَاهِراً وَبَاطِناً، وَإِلاَّ فَلاَ غُفْرَانَ.

((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))، ((يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ))، تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، الْخُلُوصُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ أَوَّلَ مَا يُعْقَدُ عِنْدَ عَدِّ الْخِصَالِ وَعِنْدَ السَّيْرِ إِلَى الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ، فَهَذَا أَوَّلاً.

هَذِهِ الْعِبَادَةُ تَسْتَتْبِعُ حَتْماً طَهَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحِقْدِ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي يَدٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَرْءُ الْمَاءَ وَالنَّارَ قَدِ اجْتَمَعَا فِي يَدٍ، لاَ يُمْكِنُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ، وَكَذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الطُّهْرُ وَالنَّجَاسَةُ فِي مَحَلٍّ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ النُّورُ وَالظَّلاَمُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْحِقْدُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبٍ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ التَّوْحِيدُ وَالشِّرْكُ فِي قَلْبٍ أَبَداً، ((وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، وَقَدِ اطَّلَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ بِجَانِبٍ وَبِمَبْعَدَةٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَيِّزِ التَّهْرِيجِ، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص: 88].

نَعَم! {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}؛ فَالْمَوْتُ أَقْرَبُ لِأَحَدِكُمْ مِنْ شَرَاكِ نَعْلِهِ.

نَعَم! إِنَّ الْمَوْتَ قَدْ تَبْقَى لَهُ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ بَرَأَ وَشُفِيَ، كَمْ مِنْ صَحِيحٍ هَلَكَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ نَجَا، وَلاَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ إِلاَّ اللهُ.

فَاللَّهُمَّ! يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ! وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ! -مُصَلِّينَ وَمُسَلِّمِينَ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ- نَسْأَلُكَ -يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!- أَنْ تَشْفِيَنَا، وَأَنْ تَشْفِيَ مَرْضَانَا، وَأَنْ تَشْفِيَ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ, وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ, وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ, أَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنَّا، وَأَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنْ إِخْوَانِنَا، اللَّهُمَّ! أَبْرِئْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ -يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ-.

اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ عَافِنَا، وَعَافِ مَرْضَانَا، وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا، وَاجْعَلْ آخِرَ كَلاَمِنَا مِنَ الدُّنْيَا ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



الوقت ...ألم وأمل

لفضيلة الشيخ محمد المطرودى

-إمام جامع البخارى حى الفيصلية بالرياض)


الحمَدُ للهِ ، أعطَانا ، وكفَانا ، وأوانا ، فلهُ الحمدُ في الآخرةِ والأولى ، وصلَّى اللهُ على أنقى البَشريةِ سَريرة ، وأصدقِهم لهجةً وخِطاباً أما بعدُ :
" فإني أقولُ منبهاً لنفسي ، ولمن كانَ من أبناءِ جنسي : مَنْ لم يطعْ ناصحهُ بقبولِ ما يسمعُ منه ، ولم يَنْقَدْ لبيانهِ فيما يُرِيغُهُ إليهِ ويطلعُهُ عليهِ ؛ ولم يرَ أنَّ عَقْلَ العالم الرَّشيد ، فوقَ عقل المتعلم البليد ؛ وأنَّ رأيَ المجربِ البصير ، مقدمٌ على رأي الغَمْرِ الغرير فقدْ خَسِرَ حظهُ في العاجل ، ولعله أيضاً يخسرُ حظهُ في الآجل ؛ فإنَّ مصالحَ الدُنيا معقودةٌ بمراشدِ الآخرة "(1).
وإنَّ للنِعم يا عبادَ اللهِ أصولاً وفروعاً ؛ إيمانٌ بالله ، وعملٌ بمقتضى آيات الله ، وصحةٌ وعافيةٌ في الأبدانِ ، وعلمٌ يَرفعُ الجهلَ ، ويسمو به العبدُ بين الأنام .
وزمانٌ يتقلبُ فيهِ العبدُ بين ليلٍ ونهارٍ ، وحَرٍ وبَرْدٍ ، وفَرحٍ وتَرحٍ ، « أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ » .
ولا يُقسمُ اللهُ في كتابهِ المبينِ إلا بعظيمٍ ؛ منْ أهملهُ وضيعهُ أضاعَ نفيساً لا يُسْتَردُ ، وعزيزاً لا يفيء ، فأقسمَ جلَّ شأنهُ بالليلِ إذ أدبر ، والصُّبح إذا أسفر ، وبالليل إذا يغشى ، والنَّهارِ إذا تجلَّى ، ونوهَ تعالى بالفجرِ وليالٍ عشر ، وخصَّ الزمان بسورةٍ بليغةٍ فصيحةٍ فقال : « والعصر ، إنَّ الإنسانَ لفي خسر » .
ولا شيءَ يملأُ قلبَ العبدِ بالحسرات ؛ كضياعِ الأوقات ، لأنَّ الوقتَ منقضٍ بذاتهِ ، منصرمٌ بنفسهِ ، فمن غَفَلَ عن نفسهِ تصَرَّمتْ أوقاته ، وعَظُمَ فَواتُه ، واشتدتْ حسراته ، وتزدادُ حسرتهُ حين يعلمُ مِقْدَارَ ما أضاعَ من زمانهِ ، فيطلبُ الرُّجوعَ فهيهاتَ أنْ يعود .

لا بدَّ للعُمْرِ النَّفيسِ من الفنا ** فاصرفْ زمانك في الأَعزّ الأَفْخرِ(2)

ووقتُكَ يا عبدَ الله ، ويا أمةَ الله : يمرُ أسرعَ من السَّحاب ، فمنْ كان وقتهُ لله ، فهو حياتهُ وعمرُه ، وغيرُ ذلكَ فليسَ محسوباً من حياتهِ وإنْ عاشَ فيهِ طَويلاً ، فهو يعيشُ عيشَ البهائم ، فإذا مضى وقتهُ في الغفلةِ والشَّهوةِ والأماني الباطلةِ ، وبينَ المواقعِ ، والمنتديات ، والقنواتِ والفَضائيات ، وركبهُ شيطانهُ في طلبِ المعصيةِ والسَّفرِ إليها ، فموتُ هذا خيرٌ لهُ من حياتهِ ، وإذا كان العبدُ ليسَ له من صلاتهِ إلا ما عَقَلَ منها ، فليسَ له من عُمُرِهِ إلا ما كانَ مصروفاً في عَملٍ صالحٍ.

سابقْ زمانكَ خوفاً منْ تقلبهِ ** فكَمْ تَقَـلّبَتِ الأيّامُ وَالـدّوَلُ
وَاعزمْ متى شئتَ فالأوْقاتُ واحدة ٌ **لا الريثُ يدفعُ مقدوراً ولا العجلُ
لا تَرْقُبِ النّجمَ في أمرٍ تُحاوِلُهُ **فالله يَفعَلُ، لا جَديٌ وَلا حَمَلُ
مع السعادة ِ ما للنجمِ من أثرٍ **فلا يغــركَ مـريخٌ ولا زحلُ
الأمرُ أعظمُ والأفكارُ حائرة ٌ **والشَّرعُ يُصْدُقُ والإنسانُ يمتثلُ (3)

وقُدْوتُكَ أيها الموفق : أنبياءُ اللهِ ، ورُسُلُه ، والصَّالِحون من عبادِه ، فهلْ تجدُ أزكى منهم فتقتدي به !!، أو يسبقهم أحد ، فدعكَ من الغافلين ، وأسلُكْ سبيلهم تنجُ من عَظيمةٍ ، وإلا فإني لا إخالُكَ نَاجيا.
أولئكَ الأخيارُ : نهارهم سعيٌ واكتسابٌ ، وعِفَةٌ عمَّا في أيدي النَّاس ، وصيانةٌ للسانِ عنِ الغيبةِ والنَّميمة ، وللجوارحِ عمَّا حرَّمَ الله ، ومجالسهمْ ذكرٌ وتسبيحٌ واستغفارٌ ، وبرٌ وإحسان ، أمَّا ليلهم فأجفانهم من دموعهم سَابِلة(4)، وألسنتُهمْ بذكرِ اللهِ لاهجةٌ ، دعواتٌ مُلحة ، وعيونٌ باكِية ، وأكُفٌ مرفوعة ، فما أسعدَهُم ، ومَا أهنائَهُم بالحياة ، « لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ » .
فأدرِكْ زمانكَ يا عبدَ الله ، وتزوَّدْ مِنَ الصَّالحاتِ الباقِياتِ ، و« اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ »(5).

وكانَ الموفقونَ من عِبادِ اللهِ لا يسمحونَ لأحدٍ أنْ يُضِيْعَ أوقاتهم ، ويستَّخِفَّ بزمانهم ، فكانوا ينأونَ بمجالِسهم عنهم ، ويَضِنْوُنَ عليهمْ بساعاتهم ، بلْ يَزْجُرُون مَنْ هذا شأنُه ، وهذهِ بضاعَتُه « فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ».
فنعوذُ باللهِِ مِنْ هؤلاءِ الفَارِغين ، ولُصُوصِ الأوقات ، وصُنَاعِ الفَشَل ، الذينَ لا يَعْرِفُونَ وقتاً للزيارة ، واحتراماً لموعدٍ ؛ وصيانةً لوقت؛ ولذا عُدَّ إخلافُ الوعدِ من خِصَالِ النفاقِ لما يحتويه من ضياعِ الوقت .

ولقَدْ رأينا مِنْ هؤلاءِ في زماننا من أغناه الله ، ووسع عليه ، ولكنه يُضَيِعُ وقتهُ في الأسواقِ ، والاستراحاتِ ، ومجالسِ السَّمر ، والمقَاهِي واللَّعب ، وكَمْ تَمُرُ بهِ منْ آفةٍ ومُنْكَر ، وبعضهم تنقضي أوقاته فيما لا يخصُهُ ولا يَعْنِيهِ ، فَيتكلم في كُلِ شيءٍ ، ويُجْرِي فِكْرَه ولسانَهُ في البيعِ والشِراءِ والعِمارةِ والصِناعةِ وليسَ من أهلها ، ومنهم من ينصرمُ وقتهُ على معصيةٍ ونشرٍ للباطل ، ومحاربةٍ للخير ، وصَدٍ عن سبيلِ الله : « أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ » .

واعلمْ أنَّ الزَّمانَ أشرفُ من أنْ تضيعَ منه لحظةٌ أو ساعةٌ ، فقد روى التَّرمذيُ والحاكمُ بإسنادٍ صحيحٍ من حديثِ جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِى الْجَنَّةِ ».
فكيفَ تضيعُ أوقاتنا ، وتفوتنا المسابقةُ إلى الخيرات !!.

واعلمْ رعاكَ الله : أنَّ مما يعينُكَ على اغتنامِ الزَّمان : أنْ تكونَ بخيلاً بوقتكَ ، شَحيحاً بهِ على النَّاس ، فإنهم يقطعونَ عليكَ ليلك ونهارك ، فإياك وإياهم ، فإنهم قُطاعُ الطَّريقِ على كُلِ طاعةٍ ، وإذا نَزَلَتْ بكَ شدةٌ رأيتَ إعراضهم عنكَ ، وظهرَ لكَ قُبْحُ طبائعهم، فأحفظْ زمانك عن البطالةِ وأهلها ، وأملأَ خزائنكَ بالصَّالحات ، واصبرْ على ذلكَ ، وصُنْ جَوارِحَكَ ، وارْعَ حقَّ اللهِ فيها، فتلكَ فضيلةٌ لا يُلقَاها إلا ذو حظٍ عظيم :

و أحفظ لسانك واحترز من لفظه** فالمرء يسلم باللسان ويعطب
و إذا أصابك في زمانك شدة ٌ** و أصابك الخطب الكريه الأصعب
فَادْعُ لِرَبِّكَ إِنَّهُ أَدْنَى لِمَنْ** يدعوه من حبل الوريد وأقرب
كن ما استطعت عن الأنام بمعزلٍ** إِنَّ الكَّثِيْرَ مِنَ الوَرَى لا يُصْحَبُ
واجعل جليسك سيداً تحظى به** حَبْرٌ لَبِيْبٌ عاقِلٌ مِتَأَدِّبُ
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي** فالنصح أغلى ما يباع ويوهب (6)



ومما نأسفُ لهُ في زماننا ، وتتوجعُ له نفوسنا ، ما نراهُ من أهلِ عصرنا من قتلٍ للوقتِ فيما لا يغني ولا ينفع ، وبئستْ حياةٌ لا دين فيها ولا دنيا ، سهرٌ ، وسمرٌ ،و إيثارٌ للرَّاحةِ والدَّعةِ على الجدِ والدأبِ ، بلْ صارَ التَّرفُ والرَّفاهيةُ ، وأنواعٌ من الفُضُولِ مَقْصِداً من مقاصد الحياة !! ، وغدتِ المُتَعُ من مَطَالِب الزَّمان !! ، ولم يبقَ وقتٌ للجدِ ، والعملِ ، والاختراعِ ، والنَّشاطِ ، ونفعِ العبادِ والبلاد ، وأصبحَ النَّاس يلهثونَ وراء لذاتِ الدنيا ، فضاعتْ أوقاتهم ، وزادت حسراتهم ، وكتبتْ سيئاتهم، فبادروا أيامكم رحمكم الله ، واغتموا شرخَ أعماركم وشبابها ، فالعملُ والجدُ ، والقوةُ والمجدُ ، ونيلُ الغايات ، وصفاءُ اللذاذات، إنما هو في سنِ الشَّباب ، لا في الشيخوخة ؛ فإنها مسرحُ الأمراض والأعراض ، ومجمعُ المكدرات والمنغصات :

أَوْدَى الشَّبابُ الذي مجدٌ عواقبهُ ** فيه نَلَذُّ ولا لذَّات للشيبِ (7)

فالعاقلُ الموفق : منْ يملأُ كُلَّ لحظةٍ وثانيةٍ من عُمُرِهِ بفائدةٍ أو عملٍ صالحٍ ، قالَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنهُ : « إني لأكرهُ أنْ أرى أحدكم سبهللاً – أي: فارغاً – لا في عملِ دنيا ولا في عملِ آخرة ».
وانظُرْ لأحوالِ البشرِ عندما تسنحُ لهم إجازةٌ ، أو تَعْرِضُ لهم راحةٌ من العمل ، فالطَّلابُ والطالبات تمرُ عليهم الأوقاتُ ، وتمضي السَّاعاتُ ووقتهم هملٌ ضائعٌ ، وربما جرَّهُم الفَرَاغُ والصِحةُ إلى حياضِ الجريمةِ ، فخسروا أنفسهم وخسرهم النَّاس .

وفي البيوتِ نِصْفُ عددِ الأُمَةِ منَ النِساء ، فكيفَ تقضي المرأةُ في عصرنا زمانها ، قنواتٌ ومجلاتٌ ، وأفلامٌ ، ومسرحياتٌ ؛ عبثٌ بالوقت ، وإهدارٌ للعمر فيما يضر ولا ينفع ؛ والأيامُ والليالي والشُّهورُ والسنين : إنما هي خزائنٌ ، فأودعوا فيها ما يسُركم أنْ تلقوه عند ربكم.
روى البخاري وغيره عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ « سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ - لِكَىْ يُصَلِّينَ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا ، عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ » .

أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه كان غفارا.



الخطبة الثانية :

الحمدُ لله ، وفقَ من شاءَ من عبادهِ للخيراتِ ، فاشغلوا أوقاتهم بالباقياتِ الصَّالحات ، وصلَّى الله على معلم النَّاس الخير ، وأحبِهم للإحسان والبر ، وسلَّم تسليماً كثيراً أما بعد :
فلا يخفى عليكم أنَّ مِنْ ضياعِ الزَّمنِ في عصرنا ما نراهُ من رضا كثيرٍ مِنَ النَّاس بالجهل ، بل لا تجدُ من يتألم من الجهلِ والجهالة ، وليتَه مع جهله انكفأ على نفسه ، وسَلِمَ النَّاسُ من جهلهِ وعبثه ؛ بل تجدْهُ قد جمعَ إلى سوء جهلهِ أنَّه يتكلمُ فيما لا يعنيهِ ، وما لا يحسنه !! .
لقد هجرتِ الكُتب والمكتبات ، وأصبحتِ القِراءة والمطالعةُ عيباً عندَ كثيرٍ من النَّاس ، وأنكروا على من صانَ وقتهُ عنِ اللهوِ واللَّعب .

إنَّ ضياعَ الوقتِ من الجهل ، وإنَّ العلمَ والتَّعلمَ سبيلٌ إلى صِيانةِ الوقتِ وحفظهِ ، فما نشأتِ الخواطرُ الدَّاعيةُ إلى السُوءِ إلا منْ الجهلِ ، ولا عمَّ الشِقَاقُ والخِلافُ إلا مِنَ الفراغ، فإذا اجتمعَ فراغٌ وصحةٌ وجهلٌ حلَّتِ النقمةُ ، وأصبحتْ الحياةُ جحيماً لا يطاقُ لأنَّ الزَّمنَ يضيعُ ، فليسَ هوَ للدُنيا ، وليسَ للدين : « وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ».
وإنَّ حفظَ الوقتِ صَلاحٌ للأمةِ أيضاً ، وليسَ مُجرَّدَ صلاحٍ للفَرد ، إنَّ أمةً يحافظُ أبناؤها على أوقاتهم أمةٌ مُتعلمةٌ ، متفوقةٌ وناجحةٌ في شتى فروعِ العلمِ والمعارف ، ويرتقي النَّاسُ في حديثهم ، ويسمو تفكيرهم ، ويكتسبُ بعضهم من بعضٍ علماً وأدباً وسلوكاً وتقديراً للزَّمن .

دَعِ التّـــوَانيَ في أمْرٍ تَهُمّ بِهِ ** فإنّ صرفَ الليالي سابقٌ عجلُ
ضَيّعتَ عمركَ فاحزَنْ إن فطِنتَ له ** فالعُمرُ لا عِوَضٌ عنه وَلا بَدَلُ (8)

وفي عصرِ التَّقنيةِ والسُّرعةِ الكَهربية ، وشبكةِ المعلوماتِ العالمية ، والمقاهي ، والنَّوادي ، والملاهي ، والأسواقِ ، والمنتجعات ؛ التي قضت على أوقات النَّاس ، ولما عليه أكثرنا من سُوءِ الاستخدامِ لهذه النِعم ؛ كانتْ سبباً في انحرافِ بعض الشَّبابِ والفتيات ، وعكَّرتْ حياتهم الهادئة ، وجلبتْ لهم شروراً لم يحيطوا بها من قبل .

اللهم أحفظ علينا أعمارنا في طاعتك ، وأمنن علينا بفعل الصَّالحات ، واعصمنا من الفتن ما ظهر وما بطن ، واجعلنا هداةً مهتدين ،اللهم أرض عن أصحاب نبيك ، وأرضهم ، واسلك بنا طريقتهم ، واحشرنا في زمرتهم .
اللهم أعزَّ الإسلام وانصرِ المسلمين ، وأذلَّ الشرك ، وأخذلِ المشركين ، اللهم وفقْ ولاةَ أمرنا لرضاك ، وأعنهم على ما وليتهم من شؤونِ عبادك ، وهيئ لهم بطانة الخير والصلاح ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنةً ، وقنا عذابَ النَّار ، وصلَّى الله وسلَّم على محمد وآله وصحبه أجمعين .




كتبها : محمد بن عبد العزيز المطرودي
الداعية في وزارة الشؤون الإسلامية
وخطيب جامع الإمام البخاري في الفيصلية
 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان



الوقت ...ألم وأمل

لفضيلة الشيخ محمد المطرودى

-إمام جامع البخارى حى الفيصلية بالرياض)


الحمَدُ للهِ ، أعطَانا ، وكفَانا ، وأوانا ، فلهُ الحمدُ في الآخرةِ والأولى ، وصلَّى اللهُ على أنقى البَشريةِ سَريرة ، وأصدقِهم لهجةً وخِطاباً أما بعدُ :
" فإني أقولُ منبهاً لنفسي ، ولمن كانَ من أبناءِ جنسي : مَنْ لم يطعْ ناصحهُ بقبولِ ما يسمعُ منه ، ولم يَنْقَدْ لبيانهِ فيما يُرِيغُهُ إليهِ ويطلعُهُ عليهِ ؛ ولم يرَ أنَّ عَقْلَ العالم الرَّشيد ، فوقَ عقل المتعلم البليد ؛ وأنَّ رأيَ المجربِ البصير ، مقدمٌ على رأي الغَمْرِ الغرير فقدْ خَسِرَ حظهُ في العاجل ، ولعله أيضاً يخسرُ حظهُ في الآجل ؛ فإنَّ مصالحَ الدُنيا معقودةٌ بمراشدِ الآخرة "(1).
وإنَّ للنِعم يا عبادَ اللهِ أصولاً وفروعاً ؛ إيمانٌ بالله ، وعملٌ بمقتضى آيات الله ، وصحةٌ وعافيةٌ في الأبدانِ ، وعلمٌ يَرفعُ الجهلَ ، ويسمو به العبدُ بين الأنام .
وزمانٌ يتقلبُ فيهِ العبدُ بين ليلٍ ونهارٍ ، وحَرٍ وبَرْدٍ ، وفَرحٍ وتَرحٍ ، « أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ » .
ولا يُقسمُ اللهُ في كتابهِ المبينِ إلا بعظيمٍ ؛ منْ أهملهُ وضيعهُ أضاعَ نفيساً لا يُسْتَردُ ، وعزيزاً لا يفيء ، فأقسمَ جلَّ شأنهُ بالليلِ إذ أدبر ، والصُّبح إذا أسفر ، وبالليل إذا يغشى ، والنَّهارِ إذا تجلَّى ، ونوهَ تعالى بالفجرِ وليالٍ عشر ، وخصَّ الزمان بسورةٍ بليغةٍ فصيحةٍ فقال : « والعصر ، إنَّ الإنسانَ لفي خسر » .
ولا شيءَ يملأُ قلبَ العبدِ بالحسرات ؛ كضياعِ الأوقات ، لأنَّ الوقتَ منقضٍ بذاتهِ ، منصرمٌ بنفسهِ ، فمن غَفَلَ عن نفسهِ تصَرَّمتْ أوقاته ، وعَظُمَ فَواتُه ، واشتدتْ حسراته ، وتزدادُ حسرتهُ حين يعلمُ مِقْدَارَ ما أضاعَ من زمانهِ ، فيطلبُ الرُّجوعَ فهيهاتَ أنْ يعود .

لا بدَّ للعُمْرِ النَّفيسِ من الفنا ** فاصرفْ زمانك في الأَعزّ الأَفْخرِ(2)

ووقتُكَ يا عبدَ الله ، ويا أمةَ الله : يمرُ أسرعَ من السَّحاب ، فمنْ كان وقتهُ لله ، فهو حياتهُ وعمرُه ، وغيرُ ذلكَ فليسَ محسوباً من حياتهِ وإنْ عاشَ فيهِ طَويلاً ، فهو يعيشُ عيشَ البهائم ، فإذا مضى وقتهُ في الغفلةِ والشَّهوةِ والأماني الباطلةِ ، وبينَ المواقعِ ، والمنتديات ، والقنواتِ والفَضائيات ، وركبهُ شيطانهُ في طلبِ المعصيةِ والسَّفرِ إليها ، فموتُ هذا خيرٌ لهُ من حياتهِ ، وإذا كان العبدُ ليسَ له من صلاتهِ إلا ما عَقَلَ منها ، فليسَ له من عُمُرِهِ إلا ما كانَ مصروفاً في عَملٍ صالحٍ.

سابقْ زمانكَ خوفاً منْ تقلبهِ ** فكَمْ تَقَـلّبَتِ الأيّامُ وَالـدّوَلُ
وَاعزمْ متى شئتَ فالأوْقاتُ واحدة ٌ **لا الريثُ يدفعُ مقدوراً ولا العجلُ
لا تَرْقُبِ النّجمَ في أمرٍ تُحاوِلُهُ **فالله يَفعَلُ، لا جَديٌ وَلا حَمَلُ
مع السعادة ِ ما للنجمِ من أثرٍ **فلا يغــركَ مـريخٌ ولا زحلُ
الأمرُ أعظمُ والأفكارُ حائرة ٌ **والشَّرعُ يُصْدُقُ والإنسانُ يمتثلُ (3)

وقُدْوتُكَ أيها الموفق : أنبياءُ اللهِ ، ورُسُلُه ، والصَّالِحون من عبادِه ، فهلْ تجدُ أزكى منهم فتقتدي به !!، أو يسبقهم أحد ، فدعكَ من الغافلين ، وأسلُكْ سبيلهم تنجُ من عَظيمةٍ ، وإلا فإني لا إخالُكَ نَاجيا.
أولئكَ الأخيارُ : نهارهم سعيٌ واكتسابٌ ، وعِفَةٌ عمَّا في أيدي النَّاس ، وصيانةٌ للسانِ عنِ الغيبةِ والنَّميمة ، وللجوارحِ عمَّا حرَّمَ الله ، ومجالسهمْ ذكرٌ وتسبيحٌ واستغفارٌ ، وبرٌ وإحسان ، أمَّا ليلهم فأجفانهم من دموعهم سَابِلة(4)، وألسنتُهمْ بذكرِ اللهِ لاهجةٌ ، دعواتٌ مُلحة ، وعيونٌ باكِية ، وأكُفٌ مرفوعة ، فما أسعدَهُم ، ومَا أهنائَهُم بالحياة ، « لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ » .
فأدرِكْ زمانكَ يا عبدَ الله ، وتزوَّدْ مِنَ الصَّالحاتِ الباقِياتِ ، و« اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ »(5).

وكانَ الموفقونَ من عِبادِ اللهِ لا يسمحونَ لأحدٍ أنْ يُضِيْعَ أوقاتهم ، ويستَّخِفَّ بزمانهم ، فكانوا ينأونَ بمجالِسهم عنهم ، ويَضِنْوُنَ عليهمْ بساعاتهم ، بلْ يَزْجُرُون مَنْ هذا شأنُه ، وهذهِ بضاعَتُه « فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ».
فنعوذُ باللهِِ مِنْ هؤلاءِ الفَارِغين ، ولُصُوصِ الأوقات ، وصُنَاعِ الفَشَل ، الذينَ لا يَعْرِفُونَ وقتاً للزيارة ، واحتراماً لموعدٍ ؛ وصيانةً لوقت؛ ولذا عُدَّ إخلافُ الوعدِ من خِصَالِ النفاقِ لما يحتويه من ضياعِ الوقت .

ولقَدْ رأينا مِنْ هؤلاءِ في زماننا من أغناه الله ، ووسع عليه ، ولكنه يُضَيِعُ وقتهُ في الأسواقِ ، والاستراحاتِ ، ومجالسِ السَّمر ، والمقَاهِي واللَّعب ، وكَمْ تَمُرُ بهِ منْ آفةٍ ومُنْكَر ، وبعضهم تنقضي أوقاته فيما لا يخصُهُ ولا يَعْنِيهِ ، فَيتكلم في كُلِ شيءٍ ، ويُجْرِي فِكْرَه ولسانَهُ في البيعِ والشِراءِ والعِمارةِ والصِناعةِ وليسَ من أهلها ، ومنهم من ينصرمُ وقتهُ على معصيةٍ ونشرٍ للباطل ، ومحاربةٍ للخير ، وصَدٍ عن سبيلِ الله : « أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ » .

واعلمْ أنَّ الزَّمانَ أشرفُ من أنْ تضيعَ منه لحظةٌ أو ساعةٌ ، فقد روى التَّرمذيُ والحاكمُ بإسنادٍ صحيحٍ من حديثِ جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِى الْجَنَّةِ ».
فكيفَ تضيعُ أوقاتنا ، وتفوتنا المسابقةُ إلى الخيرات !!.

واعلمْ رعاكَ الله : أنَّ مما يعينُكَ على اغتنامِ الزَّمان : أنْ تكونَ بخيلاً بوقتكَ ، شَحيحاً بهِ على النَّاس ، فإنهم يقطعونَ عليكَ ليلك ونهارك ، فإياك وإياهم ، فإنهم قُطاعُ الطَّريقِ على كُلِ طاعةٍ ، وإذا نَزَلَتْ بكَ شدةٌ رأيتَ إعراضهم عنكَ ، وظهرَ لكَ قُبْحُ طبائعهم، فأحفظْ زمانك عن البطالةِ وأهلها ، وأملأَ خزائنكَ بالصَّالحات ، واصبرْ على ذلكَ ، وصُنْ جَوارِحَكَ ، وارْعَ حقَّ اللهِ فيها، فتلكَ فضيلةٌ لا يُلقَاها إلا ذو حظٍ عظيم :

و أحفظ لسانك واحترز من لفظه** فالمرء يسلم باللسان ويعطب
و إذا أصابك في زمانك شدة ٌ** و أصابك الخطب الكريه الأصعب
فَادْعُ لِرَبِّكَ إِنَّهُ أَدْنَى لِمَنْ** يدعوه من حبل الوريد وأقرب
كن ما استطعت عن الأنام بمعزلٍ** إِنَّ الكَّثِيْرَ مِنَ الوَرَى لا يُصْحَبُ
واجعل جليسك سيداً تحظى به** حَبْرٌ لَبِيْبٌ عاقِلٌ مِتَأَدِّبُ
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي** فالنصح أغلى ما يباع ويوهب (6)



ومما نأسفُ لهُ في زماننا ، وتتوجعُ له نفوسنا ، ما نراهُ من أهلِ عصرنا من قتلٍ للوقتِ فيما لا يغني ولا ينفع ، وبئستْ حياةٌ لا دين فيها ولا دنيا ، سهرٌ ، وسمرٌ ،و إيثارٌ للرَّاحةِ والدَّعةِ على الجدِ والدأبِ ، بلْ صارَ التَّرفُ والرَّفاهيةُ ، وأنواعٌ من الفُضُولِ مَقْصِداً من مقاصد الحياة !! ، وغدتِ المُتَعُ من مَطَالِب الزَّمان !! ، ولم يبقَ وقتٌ للجدِ ، والعملِ ، والاختراعِ ، والنَّشاطِ ، ونفعِ العبادِ والبلاد ، وأصبحَ النَّاس يلهثونَ وراء لذاتِ الدنيا ، فضاعتْ أوقاتهم ، وزادت حسراتهم ، وكتبتْ سيئاتهم، فبادروا أيامكم رحمكم الله ، واغتموا شرخَ أعماركم وشبابها ، فالعملُ والجدُ ، والقوةُ والمجدُ ، ونيلُ الغايات ، وصفاءُ اللذاذات، إنما هو في سنِ الشَّباب ، لا في الشيخوخة ؛ فإنها مسرحُ الأمراض والأعراض ، ومجمعُ المكدرات والمنغصات :

أَوْدَى الشَّبابُ الذي مجدٌ عواقبهُ ** فيه نَلَذُّ ولا لذَّات للشيبِ (7)

فالعاقلُ الموفق : منْ يملأُ كُلَّ لحظةٍ وثانيةٍ من عُمُرِهِ بفائدةٍ أو عملٍ صالحٍ ، قالَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنهُ : « إني لأكرهُ أنْ أرى أحدكم سبهللاً – أي: فارغاً – لا في عملِ دنيا ولا في عملِ آخرة ».
وانظُرْ لأحوالِ البشرِ عندما تسنحُ لهم إجازةٌ ، أو تَعْرِضُ لهم راحةٌ من العمل ، فالطَّلابُ والطالبات تمرُ عليهم الأوقاتُ ، وتمضي السَّاعاتُ ووقتهم هملٌ ضائعٌ ، وربما جرَّهُم الفَرَاغُ والصِحةُ إلى حياضِ الجريمةِ ، فخسروا أنفسهم وخسرهم النَّاس .

وفي البيوتِ نِصْفُ عددِ الأُمَةِ منَ النِساء ، فكيفَ تقضي المرأةُ في عصرنا زمانها ، قنواتٌ ومجلاتٌ ، وأفلامٌ ، ومسرحياتٌ ؛ عبثٌ بالوقت ، وإهدارٌ للعمر فيما يضر ولا ينفع ؛ والأيامُ والليالي والشُّهورُ والسنين : إنما هي خزائنٌ ، فأودعوا فيها ما يسُركم أنْ تلقوه عند ربكم.
روى البخاري وغيره عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ « سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ - لِكَىْ يُصَلِّينَ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا ، عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ » .

أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه كان غفارا.



الخطبة الثانية :

الحمدُ لله ، وفقَ من شاءَ من عبادهِ للخيراتِ ، فاشغلوا أوقاتهم بالباقياتِ الصَّالحات ، وصلَّى الله على معلم النَّاس الخير ، وأحبِهم للإحسان والبر ، وسلَّم تسليماً كثيراً أما بعد :
فلا يخفى عليكم أنَّ مِنْ ضياعِ الزَّمنِ في عصرنا ما نراهُ من رضا كثيرٍ مِنَ النَّاس بالجهل ، بل لا تجدُ من يتألم من الجهلِ والجهالة ، وليتَه مع جهله انكفأ على نفسه ، وسَلِمَ النَّاسُ من جهلهِ وعبثه ؛ بل تجدْهُ قد جمعَ إلى سوء جهلهِ أنَّه يتكلمُ فيما لا يعنيهِ ، وما لا يحسنه !! .
لقد هجرتِ الكُتب والمكتبات ، وأصبحتِ القِراءة والمطالعةُ عيباً عندَ كثيرٍ من النَّاس ، وأنكروا على من صانَ وقتهُ عنِ اللهوِ واللَّعب .

إنَّ ضياعَ الوقتِ من الجهل ، وإنَّ العلمَ والتَّعلمَ سبيلٌ إلى صِيانةِ الوقتِ وحفظهِ ، فما نشأتِ الخواطرُ الدَّاعيةُ إلى السُوءِ إلا منْ الجهلِ ، ولا عمَّ الشِقَاقُ والخِلافُ إلا مِنَ الفراغ، فإذا اجتمعَ فراغٌ وصحةٌ وجهلٌ حلَّتِ النقمةُ ، وأصبحتْ الحياةُ جحيماً لا يطاقُ لأنَّ الزَّمنَ يضيعُ ، فليسَ هوَ للدُنيا ، وليسَ للدين : « وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ».
وإنَّ حفظَ الوقتِ صَلاحٌ للأمةِ أيضاً ، وليسَ مُجرَّدَ صلاحٍ للفَرد ، إنَّ أمةً يحافظُ أبناؤها على أوقاتهم أمةٌ مُتعلمةٌ ، متفوقةٌ وناجحةٌ في شتى فروعِ العلمِ والمعارف ، ويرتقي النَّاسُ في حديثهم ، ويسمو تفكيرهم ، ويكتسبُ بعضهم من بعضٍ علماً وأدباً وسلوكاً وتقديراً للزَّمن .

دَعِ التّـــوَانيَ في أمْرٍ تَهُمّ بِهِ ** فإنّ صرفَ الليالي سابقٌ عجلُ
ضَيّعتَ عمركَ فاحزَنْ إن فطِنتَ له ** فالعُمرُ لا عِوَضٌ عنه وَلا بَدَلُ (8)

وفي عصرِ التَّقنيةِ والسُّرعةِ الكَهربية ، وشبكةِ المعلوماتِ العالمية ، والمقاهي ، والنَّوادي ، والملاهي ، والأسواقِ ، والمنتجعات ؛ التي قضت على أوقات النَّاس ، ولما عليه أكثرنا من سُوءِ الاستخدامِ لهذه النِعم ؛ كانتْ سبباً في انحرافِ بعض الشَّبابِ والفتيات ، وعكَّرتْ حياتهم الهادئة ، وجلبتْ لهم شروراً لم يحيطوا بها من قبل .

اللهم أحفظ علينا أعمارنا في طاعتك ، وأمنن علينا بفعل الصَّالحات ، واعصمنا من الفتن ما ظهر وما بطن ، واجعلنا هداةً مهتدين ،اللهم أرض عن أصحاب نبيك ، وأرضهم ، واسلك بنا طريقتهم ، واحشرنا في زمرتهم .
اللهم أعزَّ الإسلام وانصرِ المسلمين ، وأذلَّ الشرك ، وأخذلِ المشركين ، اللهم وفقْ ولاةَ أمرنا لرضاك ، وأعنهم على ما وليتهم من شؤونِ عبادك ، وهيئ لهم بطانة الخير والصلاح ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنةً ، وقنا عذابَ النَّار ، وصلَّى الله وسلَّم على محمد وآله وصحبه أجمعين .
 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان




(صناعة الرجاااال)

وقال الشيخ بعد خطبة الحاجة..............

أما بعد، في دار من دور المدينة، جلس عمر )رضي الله عنه ) إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا؛ فقال أحدهم:

أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله.. ثم قال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.. فقال عمر: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.


رحم الله عمر الملهم، إنه لم يتمن فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز، تفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء .
لقد كان عمر خبيراً، بأن الحضارات العظيمة، والرسالات الحقة، تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها، والعزائم القوية التي تنفذها، وباختصار: إنها تحتاج إلى رجال، وليس أي رجال .



كم من رجلٍ أعزُ من المعدن النفيس، وأغلى من الجوهر الثمين، حتى قال رسول الله (عليه الصلاة والسلام ): (إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري.
إن الرجل الواحد قد ينصر الله به الدين، ويقلب به الموازين، وفي القرآن الكريم في قصة موسى حين قتل القبطي: (وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ).. وفي سورة يس في قصة أصحاب القرية: (وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ).



الرجل الأول أنقذ الله به وبرأيه نبيه وكليمه موسى، حينما أحاطه علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته.. وأما الثاني، فرجل مؤمن يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين، ويدعو إلى اتباعهم، متحدياً رؤوس الضلالة، صارخاً به في وجه الجماهير.
إن رجلاً واحداً قد يساوي شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.



يعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد
لما حاصر خالد بن الوليد (رضي الله عنه) الحِيرة طلب من أبي بكر المدد، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو (رضي الله عنه )، وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!
ولما طلب عمرو بن العاص (رضي الله عنه ) المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  في فتح مصر كتب إليه: (أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد).. وما أحوج الأمة اليوم إلى صناعة الرجال.




عباد الله .. يوم أن كنا فيما مضى أطفالاً، كنا نتساءل حينها متى ننتقل إلى عالم الرجال؟
وبعد طول انتظار، بدء المشوار، ووصلنا مرحلة البلوغ وسن التكليف، ونحن نلقي نظرة الوداع على عالم الطفولة.. ولحكمة يريدها الله سبحانه حدثت التحولات الجسدية والتغيرات النفسية، فاخشوشن الصوت، وازداد نمو الجسم، وتغيرت طريقة التفكير.. إنها بداية حياة جديدة، ومسؤولية خطيرة، يصبح الإنسان عندها مخاطباً بالتكاليف الشرعية، مطالباً بالفرائض، مسؤولاً ومحاسباً على أعماله، يجري عليه قلم التكليف بعد أن كان مرفوعاً عنه، وتسجل عليه مثاقيل الذر من الخطايا التي يقترفها .. إن ارتكب جريمة توجب الحد كالسرقة والقتل والزنا، فإنه يقام عليه الحد .. وإن كان يتيماً ثم بلغ وأحسن التصرف في المال فإنه يستحق القبض والتصرف في ماله .. وتقبل شهادته في الحقوق والحدود ويبنى عليها، فلو شهد برؤية هلال رمضان عمل بشهادته وصام الناس بها .



كل هذه الأحكام تثبت بالبلوغ.. وللبلوغ علامات واضحة، فبلوغ الفتى يحصل بواحدة من ثلاث علامات: الأولى: إنزال المني، سواء كان ذلك يقظة أم مناماً، والثانية: إنبات شعر العانة، وهو الشعر الذي ينبت حول الذكر، والثالثة: بلوغ سن الخامسة عشرة بالسنين القمرية الهجرية.. وتزيد الفتاة علامة رابعة: وهي نزول دم الحيض .
ولعل في هذا الحكم الشرعي، إشارة تربوية إلى أن المعتبر في التعامل مع الأطفال معاملة الرجال هو البلوغ، وهذا هو هدي النبي (عليه الصلاة والسلام ) وهو خير الناس تربية وتعليماً، فقد كان يعامل الشباب البالغين كما يعامل سائر الرجال .. كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: عرضني رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني .
عباد الله، من هو الرجل الذي نفتش عنه، ونطلب صنعه؟
هل هو كل رجل طَرَّ شاربه، ونبتت لحيته؟ إذن فما أكثر الرجال!


ليست الرجولة الحقة يا عباد الله بالسن، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السبع سنين، فهو طفل صغير، ذو لحية وشارب.. وكم من غلام في مقتبل العمر، ترى الرجولة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه.
مر عمر  على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!.



ودخل غلام عربي على أحد الخلفاء، يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
وليست الرجولة يا عباد الله ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية، فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ، وإن يقولوا تسمع لقولهم، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ) .


وفي المقابل، كان عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه ) نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً وهما دقيقتان هزيلتان، فضحك بعض الصحابة: فقال الرسول (عليه الصلاة والسلام ) : "أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد" رواه احمد وحسنه الألباني .
إن الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته ودينه وأمته.


أيها الأحبة.. إنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، فكيف نصنع الرجال؟ كيف نبني عوامل الرّجولة في شخصيات أولادنا؟
لعلي أذكر بعض الوسائل مستفيداً مما ذكره الشيخ المبارك محمد المنجد في كتيب (أطفالنا ومعاني الرجولة) .



1.أخذه للمجامع العامة وإجلاسه مع الكبار: وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، كما كان الصحابة يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي(عليه الصلاة والسلام ) ، فعن قُرَّة بن إياس )رضي الله عنه ) قَال: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ (عليه الصلاة والسلام ) إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. رواه النسائي وصححه الألباني.


2.تعليمه الأدب مع الكبار: ومن جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ (عليه الصلاة والسلام ) قَالَ: يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِيرِ، والمارُّ على القاعِدِ، والقليلُ على الكثِير. رواه البخاري .


3.إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس: ومما يوضّح ذلك ما رواه البخاري عن سَهْلِ بْنِ سَعْد (رضي الله عنه ) قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ (عليه الصلاة والسلام ) بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ:يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.


4.تجنب إهانته أو احتقار أفكاره خاصة أمام الآخرين ، بل يجب تشجيعه على المشاركة، ورفع قدره وإشعاره بأهميته.


5.إلقاء السّلام عليه، كما كانت سنته (عليه الصلاة والسلام ) ، فقد روى مسلم عن أَنَسِ (رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (عليه الصلاة والسلام ) مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.

6.تعليمه الجرأة في مواضعها، وتدريبه على الخطابة وفن التواصل مع الآخرين.


7.التكنية: وهي مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرة بأمّ فلان، وهو ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بقيمته وأهميته، وقد كان النبي (عليه الصلاة والسلام ) يكنّي الصّغار؛ كما روى البخاري عَنْ أَنَسٍ )رضي الله عنه ) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ(عليه الصلاة والسلام ) أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ: أَحسبُهُ فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟) طائر صغير كان يلعب به).


وروى البخاري عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت: أُتِيَ النَّبِيُّ (عليه الصلاة والسلام ) بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ (ثوب من حرير) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ. فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ (أي أنها طفلة صغيرة) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي، يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه، (يعني حسن بِالْحَبَشِيَّةِ).


8.تربية الطفل على العزة والشجاعة، وتحديثه عن أمجاد المسلمين، ومواطن عزتهم وانتصاراتهم .
جاء في البخاري أن الزبير بن العوام  خرج بابنه عَبْد اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلاً.


9.تعليمه الرياضات الرجولية: كالرماية والسباحة وركوب الخيل، وقد جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ .


10.تجنيب الطفل أسباب الفساد والميوعة: مثل مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى، ورقص النساء وتمايلهن، والميوعة في اللباس وقصّات الشّعر والحركات والمشي، فإنها منافية للرّجولة ومناقضة للجِد .

11.منعه من الكسل والبطالة، والتقليل أحياناً من حياة التّرف، وقد قال عمر: اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم.

12.استشارته وأخذ رأيه، وتوليته بعض المسئوليات التي تناسب سنّه وقدراته .

13.استكتامه الأسرار، كما روى مسلم عن أنس (رضي الله عنه) قَال: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (عليه الصلاة والسلام ) وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه (عليه الصلاة والسلام ) لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّه (عليه الصلاة والسلام ) أَحَدًا .



نسأل الله لنا ولكم صلاح النية والذرية، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين .




الخطبة الثانية



ونحن نتحدث عن الرجولة، أوجه رسالة إلى شبابنا وأبنائنا، إلى كل ابن كريم، بلغ سن التكليف أو قارب البلوغ: يا بني، لقد أصبحت الآن رجلاً مسؤولاً عن نفسك، فعليك أولاً بتقوى الله .


إن من كمال رجولتك، أن تكون مستقيماً صادقاً مع ربك، فقد قال الله تعالى:(من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
إن من كمال رجولتك، أن تحافظ على صلاتك، جماعة في المسجد، فقد قال تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) .


إن من كمال رجولتك يا بني، أن تبر بوالديك، وأن تحسن اختيار أصدقائك، وأن تهتم بنفسك وتبني شخصيتك، وتعلي همتك.. إياك أن تعيش آمال الأطفال، أو تفكر تفكيرهم، بل اجعل همتك عالية، وإلى معالي الأمور ساعية، وتذكر يا بني أن المرء حيث يضع نفسه (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) .. فاختر لنفسك اليوم ما يسرك أن تراه غداً في حياتك وبعد مماتك .



ورسالة لكل الآباء والمربين، إنه لن تنبت الرجولة، ولن يتربى الرجال، إلا في ظلال عقيدة راسخة، وفضيلة ثابتة، كما ظهرت في أجلى صورها وأكمل معانيها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها محمد (عليه الصلاة والسلام )، وأصحابه وأولو الصلاح من بعدهم، الذين ربوا الرجال، وصنعوا الأبطال.


وصنـاعة الأبطال علمٌ قد دراه أولو الصـلاح
لا يصنـع الأبطال إلا في مساجدنا الفسـاح
في روضة القـرآن في ظل الأحاديث الصحاح
من خان على الصلاة يخون حي على الكفاح



أين هذا من زمن تجاوز فيه المسلمون المليار، ينتسبون إليه، ويحسبون عليه.
يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل
هم كما قال (عليه الصلاة والسلام): غثاء كغثاء السيل.. حتى قال بعضهم عن الإسلام: "يا له من دين لو كان له رجال" .



ومع هذا، فلا يزال في الأمة بقية خير، بل إننا رأينا ورأى العالم أطفالاً في أجسامهم، لكنهم رجالٌ في أفعالهم، أبطالٌ في مواقفهم، إنهم أطفالُ بل أبطالُ فلسطين الحبيبة، قتل آباؤهم وهم ينظرون، وهدِّمت منازلهم وهم يشهدون، ومع هذا، وقفوا بأحجارهم وعصيهم ضد دبابات وصواريخ اليهود الغاصبين، في رجولة ترفض الاستسلام والطغيان، وتأبى الذل والامتهان .


إن أمل الأمة بعد الله تعالى، في هؤلاء الرجال من الناس، وليس في عباس ولا دباس .. إن دماء الشهداء، ودموع الأبرياء، لن تثمر بإذن الله إلا نفوسًا أبية، لا ترضى في دينها الدنية.. وستسقط بإذن الله كل الدعاوى الهابطة، وستنكسر كل الأقلام الساقطة، التي تزين السلام غير العادل بزينة كالحة، وستظل القدس في قلوب المسلمين، وفوق كل مصالح المرتزقين، (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً) .

 
رد: منبر منتدى الجميزة...منبر من لا منبر له

خطبة اليوم بعنوان




(صناعة الرجاااال)

وقال الشيخ بعد خطبة الحاجة..............

أما بعد، في دار من دور المدينة، جلس عمر )رضي الله عنه ) إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا؛ فقال أحدهم:

أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله.. ثم قال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.. فقال عمر: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.


رحم الله عمر الملهم، إنه لم يتمن فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز، تفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء .
لقد كان عمر خبيراً، بأن الحضارات العظيمة، والرسالات الحقة، تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها، والعزائم القوية التي تنفذها، وباختصار: إنها تحتاج إلى رجال، وليس أي رجال .



كم من رجلٍ أعزُ من المعدن النفيس، وأغلى من الجوهر الثمين، حتى قال رسول الله (عليه الصلاة والسلام ): (إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري.
إن الرجل الواحد قد ينصر الله به الدين، ويقلب به الموازين، وفي القرآن الكريم في قصة موسى حين قتل القبطي: (وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ).. وفي سورة يس في قصة أصحاب القرية: (وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ).



الرجل الأول أنقذ الله به وبرأيه نبيه وكليمه موسى، حينما أحاطه علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته.. وأما الثاني، فرجل مؤمن يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين، ويدعو إلى اتباعهم، متحدياً رؤوس الضلالة، صارخاً به في وجه الجماهير.
إن رجلاً واحداً قد يساوي شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.



يعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد
لما حاصر خالد بن الوليد (رضي الله عنه) الحِيرة طلب من أبي بكر المدد، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو (رضي الله عنه )، وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!
ولما طلب عمرو بن العاص (رضي الله عنه ) المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  في فتح مصر كتب إليه: (أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد).. وما أحوج الأمة اليوم إلى صناعة الرجال.




عباد الله .. يوم أن كنا فيما مضى أطفالاً، كنا نتساءل حينها متى ننتقل إلى عالم الرجال؟
وبعد طول انتظار، بدء المشوار، ووصلنا مرحلة البلوغ وسن التكليف، ونحن نلقي نظرة الوداع على عالم الطفولة.. ولحكمة يريدها الله سبحانه حدثت التحولات الجسدية والتغيرات النفسية، فاخشوشن الصوت، وازداد نمو الجسم، وتغيرت طريقة التفكير.. إنها بداية حياة جديدة، ومسؤولية خطيرة، يصبح الإنسان عندها مخاطباً بالتكاليف الشرعية، مطالباً بالفرائض، مسؤولاً ومحاسباً على أعماله، يجري عليه قلم التكليف بعد أن كان مرفوعاً عنه، وتسجل عليه مثاقيل الذر من الخطايا التي يقترفها .. إن ارتكب جريمة توجب الحد كالسرقة والقتل والزنا، فإنه يقام عليه الحد .. وإن كان يتيماً ثم بلغ وأحسن التصرف في المال فإنه يستحق القبض والتصرف في ماله .. وتقبل شهادته في الحقوق والحدود ويبنى عليها، فلو شهد برؤية هلال رمضان عمل بشهادته وصام الناس بها .



كل هذه الأحكام تثبت بالبلوغ.. وللبلوغ علامات واضحة، فبلوغ الفتى يحصل بواحدة من ثلاث علامات: الأولى: إنزال المني، سواء كان ذلك يقظة أم مناماً، والثانية: إنبات شعر العانة، وهو الشعر الذي ينبت حول الذكر، والثالثة: بلوغ سن الخامسة عشرة بالسنين القمرية الهجرية.. وتزيد الفتاة علامة رابعة: وهي نزول دم الحيض .
ولعل في هذا الحكم الشرعي، إشارة تربوية إلى أن المعتبر في التعامل مع الأطفال معاملة الرجال هو البلوغ، وهذا هو هدي النبي (عليه الصلاة والسلام ) وهو خير الناس تربية وتعليماً، فقد كان يعامل الشباب البالغين كما يعامل سائر الرجال .. كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: عرضني رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني .
عباد الله، من هو الرجل الذي نفتش عنه، ونطلب صنعه؟
هل هو كل رجل طَرَّ شاربه، ونبتت لحيته؟ إذن فما أكثر الرجال!


ليست الرجولة الحقة يا عباد الله بالسن، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السبع سنين، فهو طفل صغير، ذو لحية وشارب.. وكم من غلام في مقتبل العمر، ترى الرجولة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه.
مر عمر  على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!.



ودخل غلام عربي على أحد الخلفاء، يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
وليست الرجولة يا عباد الله ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية، فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ، وإن يقولوا تسمع لقولهم، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ) .


وفي المقابل، كان عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه ) نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً وهما دقيقتان هزيلتان، فضحك بعض الصحابة: فقال الرسول (عليه الصلاة والسلام ) : "أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد" رواه احمد وحسنه الألباني .
إن الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته ودينه وأمته.


أيها الأحبة.. إنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، فكيف نصنع الرجال؟ كيف نبني عوامل الرّجولة في شخصيات أولادنا؟
لعلي أذكر بعض الوسائل مستفيداً مما ذكره الشيخ المبارك محمد المنجد في كتيب (أطفالنا ومعاني الرجولة) .



1.أخذه للمجامع العامة وإجلاسه مع الكبار: وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، كما كان الصحابة يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي(عليه الصلاة والسلام ) ، فعن قُرَّة بن إياس )رضي الله عنه ) قَال: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ (عليه الصلاة والسلام ) إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. رواه النسائي وصححه الألباني.


2.تعليمه الأدب مع الكبار: ومن جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ (عليه الصلاة والسلام ) قَالَ: يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِيرِ، والمارُّ على القاعِدِ، والقليلُ على الكثِير. رواه البخاري .


3.إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس: ومما يوضّح ذلك ما رواه البخاري عن سَهْلِ بْنِ سَعْد (رضي الله عنه ) قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ (عليه الصلاة والسلام ) بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ:يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.


4.تجنب إهانته أو احتقار أفكاره خاصة أمام الآخرين ، بل يجب تشجيعه على المشاركة، ورفع قدره وإشعاره بأهميته.


5.إلقاء السّلام عليه، كما كانت سنته (عليه الصلاة والسلام ) ، فقد روى مسلم عن أَنَسِ (رضي الله عنه ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (عليه الصلاة والسلام ) مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.

6.تعليمه الجرأة في مواضعها، وتدريبه على الخطابة وفن التواصل مع الآخرين.


7.التكنية: وهي مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرة بأمّ فلان، وهو ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بقيمته وأهميته، وقد كان النبي (عليه الصلاة والسلام ) يكنّي الصّغار؛ كما روى البخاري عَنْ أَنَسٍ )رضي الله عنه ) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ(عليه الصلاة والسلام ) أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ: أَحسبُهُ فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟) طائر صغير كان يلعب به).


وروى البخاري عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت: أُتِيَ النَّبِيُّ (عليه الصلاة والسلام ) بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ (ثوب من حرير) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ. فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ (أي أنها طفلة صغيرة) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي، يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه، (يعني حسن بِالْحَبَشِيَّةِ).


8.تربية الطفل على العزة والشجاعة، وتحديثه عن أمجاد المسلمين، ومواطن عزتهم وانتصاراتهم .
جاء في البخاري أن الزبير بن العوام  خرج بابنه عَبْد اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلاً.


9.تعليمه الرياضات الرجولية: كالرماية والسباحة وركوب الخيل، وقد جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ .


10.تجنيب الطفل أسباب الفساد والميوعة: مثل مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى، ورقص النساء وتمايلهن، والميوعة في اللباس وقصّات الشّعر والحركات والمشي، فإنها منافية للرّجولة ومناقضة للجِد .

11.منعه من الكسل والبطالة، والتقليل أحياناً من حياة التّرف، وقد قال عمر: اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم.

12.استشارته وأخذ رأيه، وتوليته بعض المسئوليات التي تناسب سنّه وقدراته .

13.استكتامه الأسرار، كما روى مسلم عن أنس (رضي الله عنه) قَال: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (عليه الصلاة والسلام ) وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه (عليه الصلاة والسلام ) لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّه (عليه الصلاة والسلام ) أَحَدًا .



نسأل الله لنا ولكم صلاح النية والذرية، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين .




الخطبة الثانية



ونحن نتحدث عن الرجولة، أوجه رسالة إلى شبابنا وأبنائنا، إلى كل ابن كريم، بلغ سن التكليف أو قارب البلوغ: يا بني، لقد أصبحت الآن رجلاً مسؤولاً عن نفسك، فعليك أولاً بتقوى الله .


إن من كمال رجولتك، أن تكون مستقيماً صادقاً مع ربك، فقد قال الله تعالى:(من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
إن من كمال رجولتك، أن تحافظ على صلاتك، جماعة في المسجد، فقد قال تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) .


إن من كمال رجولتك يا بني، أن تبر بوالديك، وأن تحسن اختيار أصدقائك، وأن تهتم بنفسك وتبني شخصيتك، وتعلي همتك.. إياك أن تعيش آمال الأطفال، أو تفكر تفكيرهم، بل اجعل همتك عالية، وإلى معالي الأمور ساعية، وتذكر يا بني أن المرء حيث يضع نفسه (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) .. فاختر لنفسك اليوم ما يسرك أن تراه غداً في حياتك وبعد مماتك .



ورسالة لكل الآباء والمربين، إنه لن تنبت الرجولة، ولن يتربى الرجال، إلا في ظلال عقيدة راسخة، وفضيلة ثابتة، كما ظهرت في أجلى صورها وأكمل معانيها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها محمد (عليه الصلاة والسلام )، وأصحابه وأولو الصلاح من بعدهم، الذين ربوا الرجال، وصنعوا الأبطال.


وصنـاعة الأبطال علمٌ قد دراه أولو الصـلاح
لا يصنـع الأبطال إلا في مساجدنا الفسـاح
في روضة القـرآن في ظل الأحاديث الصحاح
من خان على الصلاة يخون حي على الكفاح



أين هذا من زمن تجاوز فيه المسلمون المليار، ينتسبون إليه، ويحسبون عليه.
يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل
هم كما قال (عليه الصلاة والسلام): غثاء كغثاء السيل.. حتى قال بعضهم عن الإسلام: "يا له من دين لو كان له رجال" .



ومع هذا، فلا يزال في الأمة بقية خير، بل إننا رأينا ورأى العالم أطفالاً في أجسامهم، لكنهم رجالٌ في أفعالهم، أبطالٌ في مواقفهم، إنهم أطفالُ بل أبطالُ فلسطين الحبيبة، قتل آباؤهم وهم ينظرون، وهدِّمت منازلهم وهم يشهدون، ومع هذا، وقفوا بأحجارهم وعصيهم ضد دبابات وصواريخ اليهود الغاصبين، في رجولة ترفض الاستسلام والطغيان، وتأبى الذل والامتهان .


إن أمل الأمة بعد الله تعالى، في هؤلاء الرجال من الناس، وليس في عباس ولا دباس .. إن دماء الشهداء، ودموع الأبرياء، لن تثمر بإذن الله إلا نفوسًا أبية، لا ترضى في دينها الدنية.. وستسقط بإذن الله كل الدعاوى الهابطة، وستنكسر كل الأقلام الساقطة، التي تزين السلام غير العادل بزينة كالحة، وستظل القدس في قلوب المسلمين، وفوق كل مصالح المرتزقين، (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً) .

 
أعلى