أم حسام
*******
حكم سب أم المؤمنين عائشة
وقفة مع المنهج الموضوعي
ولعل من المناسب هنا أن نقف وقفة قصيرة جدا ، نبين فيها فساد هذا المنهج، وخطورة تطبيقه على تاريخ الصحابة .
والمنهج الموضوعي ، عند الغربيين يعني أن يبحث الموضوع بحثا عقليا مجردا ، بعيدا عن التصورات الدينية . ( راجع منهج كتابة التاريخ للعلياني ص 138 ) .
فنقول ردا على ذلك :
أولا : المسلم لا يمكن أن يتجرد من عقيدته بأي حال من الأحوال ، إلا أن يكون كافرا بها . ( راجع في تفصيل ذلك ، وفي الرد على دعوى الموضوعية ، بحث مخطوط للدكتور رشاد خليل 34 -37 ) .
ثانيا : كذلك بالنسبة للتاريخ الإسلامي ، إذا ثبتت الحوادث في ميزان نقد الرواية ، فبأي منهج نفهمها ونفسرها ؟ إذا لم نفسرها بالمنهج الإسلامي ، فلا بد أن نختار منهجا أخر . فنقع في الانحراف من حيث لا نعلم .
وبناء على ذلك ، يجب أن نحذر من تطبيق هذا المنهج على تاريخ الصحابة.
ويجب أن نعلم أيضا أن ما يسمى بالنقد العلمي أو الموضوعية لتاريخ الصحابة ، هو السب الوارد في كتب أهل البدع ، وفي كتب الأخبار ، وتسميته بالمنهج العلمي لا يخرجه من حقيقته التي عرف بها عند أهل السنة ، وأيضا تسميته بذلك لا تعلي من قيمته ، كما لا يعلي من قيمته أن يردده كتاب مشهورون ، وفيهم أولو فضل وصلاح .
وإنما كل ما فعله المحدثون أنهم أحيوا هذا السب الذي أماته أهل السنة عندما كانت الدولة دولتهم .
( هذه الفقرة مأخوذة من البحث القيم للدكتور رشاد خليل ) .
والذي أوصي به نفسي وإخواني الباحثين في تاريخ الصحابة إلا يتخلوا عن عقيدتهم ، ومنها الاعتقاد بعدالة الصحابة وتحريم سبهم عند البحث في تاريخهم ، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهم ، وليعلموا أن لأهل السنة منهجا واضحا في النظر إلى تلكم الأخبار ، كما سيأتي في آخر البحث .
أما من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه ، فقد أجمع العلماء انه يكفر .
قال القاضي أبو يعلي : (( من قذف عائشة رضي الله عنها بما براها الله منه كفر بلا خلاف )) .
وقد حكي الإجماع على هذا غير واحد من الأئمة لهذا الحكم .
فروي عن مالك : (( من سب أبا بكر جلد ، ومن سب عائشة قتل .
قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن )) . ( الصارم المسلول ص 566 ) .
وقال ابن شعبان في روايته ، عن مالك : (( لأن الله تعالى يقول : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين } فمن عاد فقد كفر )) . ( الشفا 2 / 1109 ) .
والأدلة على كفر من رمى أم المؤمنين صريحة وظاهرة الدلالة ، منها :
أولا : ما استدل به الإمام مالك ، أن في هذا تكذيبا للقرآن الذي شهد ببراءتها ، وتكذيب ما جاء به القرآن كفر .
قال الإمام ابن كثير : (( وقد اجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه يكفر ، لأنه معاند للقرآن )) .
( راجع تفسير ابن كثير 3 / 276 ، عند تفسير قوله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات . . . } ) .
وقال ابن حزم - تعليقا على قول الإمام مالك السابق - : (( قول مالك هاهنا صحيح ، وهي ردة تامة ، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها )) . ( المحلي 11 / 15 ) .
ثانيا : إن فيه إيذاء وتنقيصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من عدة وجوه ، دل عليها القرآن الكريم ، فمن ذلك :
إن ابن عباس رضي الله عنهما فرق بين قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } وبين قوله { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } ، فقال عند تفسير الآية الثانية : (( هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي مبهمة ليس توبة ، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة . . . إلى آخر كلامه . . . قال : فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر )) . ( انظر ابن جرير 18 / 83 ، وعنه ابن كثير 3 / 277 ) .
فقد بين ابن عباس ، أن هذه الآية إنما نزلت فيمن قذف عائشة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه ، فغن قذف المرأة أذى لزوجها ، كما هو أذى لابنها ، لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه ، وإن زنى امرأته يؤذيه أذى عظيما . . ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله اعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف . ( الصارم المسلول ص 45 ، والقرطبي 12 / 139 ) .
وكذلك فإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع .
قال القرطبي عند قوله تعالى { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا } : (( يعني في عائشة ، لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول بعينه ، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله ، وذلك كفر من فاعله )) . ( القرطبي 12 / 136 ، عن ابن عربي في أحكام القرآن 3 / 1355 - 1356 ) .
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما في حديث الإفك عن عائشة ، قالت : (( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي سلول )) ، قالت : (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر - : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي . . )) كما جاء في الصحيحين .
فقوله : (( من يعذرني )) أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي ، والله أعلم .
فثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد تأذى بذلك تأذيا استعذر منه .
وقال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية : (( مرنا نضرب أعناقهم ، فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم )) ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على سعد استئماره في ضرب أعناقهم . ( الصارم المسلول ص 47 ) .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : (( ومن يقذف الطيبة الطاهرة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، لما صح ذلك عنه ، فهو من ضرب عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين .
ولسان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن أذاني في أهلي . { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا مبينا } . . فأين أنصار دينه ليقولوا له : نحن نعذرك يا رسول الله )) . (الرد عل الرافضة 25-26 ) .
كما أن الطعن بها رضي الله عنها فيه تنقيص برسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب آخر ، حيث قال عز وجل : { الخبيثات للخبيثين .. } .
قال ابن كثير : (( أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة ، لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كانت خبيثة لما صلحت له شرعا ولا قدرا ، ولهذا قال تعالى { أولئك مبرءون مما يقولون } أي عما يقوله أهل الإفك والعدوان )) . ( ابن كثير 3 / 278 ) .