الثقافة الالكترونية .. هل هي عِجْلُ السامريِّ؟
أ.د. مصطفى رجب | 28-10-2011 21:54
لقد عبرت البشرية مراحل طفولتها وشبابها عبورا آمنا ، فلم تشهد حقبتا الزراعة والصناعة - اللتين أشبههما بمرحلتي الطفولة والمراهقة - ما تشهده الحقبة الحالية ( مرحلة كهولة البشرية ) من انهيار كاسح للقيم الإنسانية الرفيعة ، والشواهد على هذا التصور كثيرة : فبعد ما لاذت البشرية بالنظام الأممي الدولي لتتخذ منه عاصما من التردي فيما أدتها إليه الحربان العظميان من ترد ودمار، عادت فتنكرت لهذا النظام الأممي ، واتخذت منه وسيلة جديدة للسيطرة و" محللا " شرعيا لبسط النفوذ وفرض الرأي الأقوى عسكريا .
وليس لهذه ( البلطجة ) الحضارية – إن جاز التعبير – من مسوغ مقبول إلا أن يكون هو هذا الرقي الرقمي ، والتقدم التقني ، الذي باعد مابين أمم وأمم ، واتسعت بسببه رقعة الجدل بين الثقافات ، واشتد صراع القوى الراغبة في الهيمنة ، بسبب غرورها المعتمد على ما تملك من أدوات البطش والقهر والتدمير ، هذه الأدوات التي ترجع في تطورها النوعي إلى ما تحقق من تقدم في مجال التقدم التقني .
وفي سياق هذا السباق المحموم بين الأمم ممثلة في نظمها السياسية والدبلوماسية، وبين قوى الاقتصاد ممثلة في الشركات العملاقة ، والمصارف المندمجة ، والأفراد ذوي التطلعات المادية غير المحدودة ، تلاشت شيئا فشيئا قيم التواد والتكافل والإخاء الإنساني ، وتركت الساحة لقيم التصارع والتنافس الحاد ، وأصبحت ثقافة الغرب – كمصارعة الثيران والمصارعة الحرة والملاكمة – تزيح المساحات التقليدية لقيم الثقافة الشرقية الآخذة في الذبول – كالنجدة والمروءة والشهامة والأمانة – في وسائل الإعلام في بلادنا العربية.
وقد تم تسويق هذا الاستبدال القيمي تحت ألوية العولمة البراقة ، وحل الاستلاب الثقافي محل الاستمساك بالهوية .
غير أن استقراء التاريخ ، ومعطيات الواقع ، تشير – في نهاية التحليل – إلى أن هذا السعار المجنون ، وهذا اللهاث المتأجج نحو غد مظلم لا بد له من أن ينتهي بالبشرية إلى كارثة محققة شديدة الخطر حقا ، مالم تثب البشرية إلى رشدها ، وتقلم أظفار هذا المارد الجبار الذي اسمه : غرور العلم . !!
وهذا المعنى أدركتْه منذ عهد قريب الدول الكبرى الأكثر غنى – بعد ما ووجهت به مؤتمراتها من تظاهرات في سياتل وما بعدها – فشرعت تتخفف من نزعاتها التسلطية ، وتنزع قليلا إلى التخفيف من حدة قبضتها فتلغي بعض ديونها لدى الدول الفقيرة .
ومن جهة أخرى ، بدأ المعنيون بالدراسات الإنسانية يفيقون من سكرتهم ، ويستيقظون من غفلتهم ، ويولون هذا الجانب من العلم المادي المنفلت بعض اهتمامهم ، ليكبحوا جماحه ويهدئوا من غلوائه .
وفي هذا السياق تنعقد المؤتمرات العلمية المتعاقبة لتكون نذير يقظة ، وإشارة تنبيه ، لعلها توقظ من غفا ، وتنبه من سها ، إلى أننا – كمثقفين وكتاب – قلقون غاية القلق على ما آل إليه حال البشرية التي افتتنت بالعلم المادي كل الافتتان ، واتخذت من معطيات التقدم التقني ذريعة للشعور بالعظمة ، والغرور ، فظن الإنسان الغربي – بما يملك من أزرار – أنه يوشك أن يقول إنه على كل شيء قدير ، مع أن هذا المارد التقني لا يزيد كثرا عن عجل السامري الذي اصطنعه من أغلى المعادن : الذهب الخالص ، فاتخذه بنو إسرائيل إلها عبدوه ، بعدما دخل الهواء في جوفه وخرج ، محدثا صوتا يشبه الخوار !!
والأمل معقود على مؤسسات التعليم والإعلام في أن تتخطى البشرية حواجز الغرور ، إلى مرابض التفاهم الدولي ، وألا يكون ( عجل ) التقدم التقني إلها غشوما يمنح عابديه هذا الشعور الأخرق بالتفرد والتوحد والغطرسة الجوفاء .
أ.د. مصطفى رجب | 28-10-2011 21:54
لقد عبرت البشرية مراحل طفولتها وشبابها عبورا آمنا ، فلم تشهد حقبتا الزراعة والصناعة - اللتين أشبههما بمرحلتي الطفولة والمراهقة - ما تشهده الحقبة الحالية ( مرحلة كهولة البشرية ) من انهيار كاسح للقيم الإنسانية الرفيعة ، والشواهد على هذا التصور كثيرة : فبعد ما لاذت البشرية بالنظام الأممي الدولي لتتخذ منه عاصما من التردي فيما أدتها إليه الحربان العظميان من ترد ودمار، عادت فتنكرت لهذا النظام الأممي ، واتخذت منه وسيلة جديدة للسيطرة و" محللا " شرعيا لبسط النفوذ وفرض الرأي الأقوى عسكريا .
وليس لهذه ( البلطجة ) الحضارية – إن جاز التعبير – من مسوغ مقبول إلا أن يكون هو هذا الرقي الرقمي ، والتقدم التقني ، الذي باعد مابين أمم وأمم ، واتسعت بسببه رقعة الجدل بين الثقافات ، واشتد صراع القوى الراغبة في الهيمنة ، بسبب غرورها المعتمد على ما تملك من أدوات البطش والقهر والتدمير ، هذه الأدوات التي ترجع في تطورها النوعي إلى ما تحقق من تقدم في مجال التقدم التقني .
وفي سياق هذا السباق المحموم بين الأمم ممثلة في نظمها السياسية والدبلوماسية، وبين قوى الاقتصاد ممثلة في الشركات العملاقة ، والمصارف المندمجة ، والأفراد ذوي التطلعات المادية غير المحدودة ، تلاشت شيئا فشيئا قيم التواد والتكافل والإخاء الإنساني ، وتركت الساحة لقيم التصارع والتنافس الحاد ، وأصبحت ثقافة الغرب – كمصارعة الثيران والمصارعة الحرة والملاكمة – تزيح المساحات التقليدية لقيم الثقافة الشرقية الآخذة في الذبول – كالنجدة والمروءة والشهامة والأمانة – في وسائل الإعلام في بلادنا العربية.
وقد تم تسويق هذا الاستبدال القيمي تحت ألوية العولمة البراقة ، وحل الاستلاب الثقافي محل الاستمساك بالهوية .
غير أن استقراء التاريخ ، ومعطيات الواقع ، تشير – في نهاية التحليل – إلى أن هذا السعار المجنون ، وهذا اللهاث المتأجج نحو غد مظلم لا بد له من أن ينتهي بالبشرية إلى كارثة محققة شديدة الخطر حقا ، مالم تثب البشرية إلى رشدها ، وتقلم أظفار هذا المارد الجبار الذي اسمه : غرور العلم . !!
وهذا المعنى أدركتْه منذ عهد قريب الدول الكبرى الأكثر غنى – بعد ما ووجهت به مؤتمراتها من تظاهرات في سياتل وما بعدها – فشرعت تتخفف من نزعاتها التسلطية ، وتنزع قليلا إلى التخفيف من حدة قبضتها فتلغي بعض ديونها لدى الدول الفقيرة .
ومن جهة أخرى ، بدأ المعنيون بالدراسات الإنسانية يفيقون من سكرتهم ، ويستيقظون من غفلتهم ، ويولون هذا الجانب من العلم المادي المنفلت بعض اهتمامهم ، ليكبحوا جماحه ويهدئوا من غلوائه .
وفي هذا السياق تنعقد المؤتمرات العلمية المتعاقبة لتكون نذير يقظة ، وإشارة تنبيه ، لعلها توقظ من غفا ، وتنبه من سها ، إلى أننا – كمثقفين وكتاب – قلقون غاية القلق على ما آل إليه حال البشرية التي افتتنت بالعلم المادي كل الافتتان ، واتخذت من معطيات التقدم التقني ذريعة للشعور بالعظمة ، والغرور ، فظن الإنسان الغربي – بما يملك من أزرار – أنه يوشك أن يقول إنه على كل شيء قدير ، مع أن هذا المارد التقني لا يزيد كثرا عن عجل السامري الذي اصطنعه من أغلى المعادن : الذهب الخالص ، فاتخذه بنو إسرائيل إلها عبدوه ، بعدما دخل الهواء في جوفه وخرج ، محدثا صوتا يشبه الخوار !!
والأمل معقود على مؤسسات التعليم والإعلام في أن تتخطى البشرية حواجز الغرور ، إلى مرابض التفاهم الدولي ، وألا يكون ( عجل ) التقدم التقني إلها غشوما يمنح عابديه هذا الشعور الأخرق بالتفرد والتوحد والغطرسة الجوفاء .