محمد صدقى الابراشى
Moderator
فى لحظة صادقة مع النفس
وقد أزفت ساعة الغروب
واحمرت خدود الشمس خجلا تنوى الهروب
الصمت يحاصرنى
والسكوت يقتلنى
والهدوء يغازلنى
فأمسكت حبيبى إلى نفسى
والذى لا أخرجه من جيبى
إنه قلمى!
جلست هائما على وجهى
غارقا فى الفكر وسابحا فى بحر الذكريات
وبينما أقلب صفحات ذاكرتى المليئة بالآلام والامال والافراح والاتراح
جال فى خاطرى صورة أبى -رحمه الله-
الذى أرضعنا منذ الصغر حب الدين
وغرس فينا شجرة الرجولة والجد
وحطم فينا كل ميوعة وتكسر كانت تلوح فى الافق
لقد كان صوته يجلجل بالآذان
لقد كان صوته نديا عذبا سماويا
لقد كان هذا الصوت بمثابة كبسولة الحياة لى
لقد كنت أفتخر به فى كل الميادين
بل إن أصحابى كانوا يغبطونى على هذا الاب المثقف
الذى لم يكن من أبناء المدارس
وقد كان دائما يصدع بالحق ولا يخشى أحدا إلا الله
لقد غرس أبى شجرة من -ثلاثة عشر غصنا- وجذرين
تركهم جميعا وهم فى عمر الزهور
وكنت ثالث هذه الشجرة
وكنت الفتى المدلل نظرا لتفوق دراسى -حبانى الله به-
لم أبتعد يوما عن المركز الاول أو الثانى
ومرت الايام وتوالت الاعوام
وأبى دائما يربت على كتفى ويأخذ بمجامعى ويهزنى
(كُن رجلا رجله على الثرى وهامة رأسه فى الثريا)
ولازال يرى فى شخصى ذلك الفتى الذى يعيد البسمة لهذه الاسرة الكبيرة
لقد كانت هذه الاسرة الكبيرة تنعم بالهدوء ويرفرف عليها جناح المحبة والوداد
رغم أنها كانت تعيش فى شظف من العيش
بل أرى أن كلمة( شظف) لا توفى حق هذه الاسرة
ولم نكن نملك فى هذا الوقت إلا ثروة عظيمة من الخلق الحسن والثناء الجميل
ممن حولنا
بل صار كثير من الناس يتمنون أن يرزقوا بأولاد مثلنا
(فضل من الله ونعمه)
ولا زالت الفاقة تطاردنا فى كل مكان
حتى ظننت أنها تسكن معنا فى جنبات البيت العامر بالهدوء
(أسرة كبيرة وعائل واحد)
فجلسنا ننظر فى الامر
وكان لا بد من التضحية!!!
فقام الغصن الكبير معلنا بكل ثبات
أننى سأضحى بمستقلبى الدراسى
فى كلية العلوم بجامعة الازهر
وأطلق الدراسة طلقة بائنة لا رجعة فيها
ليبدأ صراعه مع الحياة
وتبدأ رحلة البحث عن عمل -ليحافظ على هذه الاسرة الهادئة-
وكنت يومها فى الثانوية
وأنا واقف مكتوف اليدين لا أستطيع أن أقدم شيئ
غير بضع كلمات أرددها فى نفسى بعد كل صلاة
ثم كانت صاعقة الثانوية التى لم أكن أتوقعها لا أنا ولا أساتذتى ولا أصدقائى
لقد تبدد حلم -سماعة الاذن وسماع نبضات المرضى-
وتحطم على صخرة الثمانينات
وقف الفتى ينظر حوله
حلمه الذى كان يحلم به ليرسم البسمة على ثغر هذه الاسرة أصبح سرابا
ودارت بى الدنيا!
وولت الايام ظهرها لى
وضاعت البسمة من على شفتى
أحاول أن اصطنعها !
ماذا أصنع لهذه الاسرة الجميلة لأعيد البسمة للشفاه !
فجال فى خاطرى إعتزال الحياة الدراسية
وألحق بالغصن الكبير
فجاءت أمى بصوتها الحنون وقلبها الرؤف
وصوتها الدافئ ويدها الحانية
وقالت يابنى لا تقتل فرحتى مرتين
امض فى طريقك والله معنا
ثم ذهبت إلى أسوار جامعة القاهرة
لأكون( درعمى )-هكذا قال لى محدثى-
ويوم أن رأيت مافى الجامعة وسمعت عن التكاليف الباهظة
والمصروفات الزائدة
فقلت لتكن الزقازيق بأى وسيلة
فوقعت فى شراك القانون دون ما أدرى
وبدأت المكافآت التشجيعية تأتينى من كل مكان
يا صاحب الثمانينات أقبل ولا تخف لقد شرفتنا فى هذه الكلية
ولكن هذا الشاب ليس مقتنعا بهذا
لم يكن هذا حلمى ولم أتخيل يوما نفسى فى هذا المكان
ورغم عدم الاقتناع كنت ثالث عشرة فى السنة الاولى
فتعجبت من نفسى ولم أسعد بهذا يوما من الايام
وظل الفتى فى حيرة من أمره
حتى أنار الله بصيرتى بثلة من الشباب المباركين الذين طرقوا باب قلبى
وسمعت لأول مرة ماذا قدمت لدين الله؟
ومن هنا كانت البداية إلى الله
فأحسست لأول مرة أن قيمة الانسان فى دينه وليس فى تعليمه
وبدأت أطوى الليل النهار فى قراءة كتب التراث وأعكف على حفظ القرآن
وكتب السنة وبدأت علامات الخير تلوح فى الافق
وهاهو الصبى يبدأ التغيير مع إخوته وجيرانه وأصحابه
وبدأت رائحة السُنة تهب على هذه العزبة النائية فى وقت كانت السنة غريبة
وبدأ ذلك الشاب يتقدم فى طلب العلم الشرعى
ولم يكن يقلل من هذه الهمة إلا فاقة هذه الاسرة- الضاربة بجذورها فى الارض-
فكتبت إلى صاحبى فى- ديار نجد -بيتين من الشعر لا يمكن أن أنساهم
(أأذكر حاجتى أم قد كفانى حياؤك....إن شيمتك الحيااااااء
إذا أثنى عليك المرء يوما ...كفاه من تعرضه الثنااااء)
وجاءنى الخبر الذى كنت أخشاه
أننى قُبلت فى ديار نجد
فظللت حائرا
ووقعت بين شقى الرحى
وكان علىّ أن أختار أحلى المرين
هل أترك طلب العلم الشرعى الذى كان أمنية حياتى....
أم السفر الذى سيسعد هذه الاسرة الهادئة ويعيد لها البسمة)
وكان الاختيار صعب فاخترت الثانية رغما عنى
فالوضع لا يستلزم المفاضلة
ثم بدأت رحلة مريرة من التفات الدنيا بظهرها إليّ
وبدأت تتقاذفنى أمواج الحياة العاتية
وخضت غمار معركة ضارية لأثبت فيها نفسى
والايام أراها كل يوم تؤلمنى بسياطها
وأنا أحاول التماسك لأجل هذه الاسرة المجاهدة
حتى جاء الفرج بفضل الله ودعاء الصالحين لى
ولأعيد البسمة إلى هذه الاسرة الجميلة
كما كنت أتمنى وأنا صغير
ولا زالت البسمة والحمد لله ينعم بها الجميع
بل تزداد كل يوم
التعديل الأخير بواسطة المشرف: