ابوشدى
Moderator
قطيعة الرحم
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد : فإن قطيعة الرحم ذنب عظيم ، وجرم جسيم ، يفصم الروابط ، ويقطع الشواجر ، ويشيع العداوة والشنآن ، ويحل القطيعة والهجران .
وقطيعة الرحم مزيلة للألفة والمودة ، مؤذنة باللعنة وتعجيل العقوبة ، مانعة من نزول الرحمة ودخول الجنة ، موجبة للتفرد والصغار والذلة .
وهي- أيضا - مجلبة لمزيد الهم والغم ؛ ذلك أن البلاء إذا أتاك ممن تنتظر منه الخير والبر والصلة- كان ذلك أشد وقعا ، وأوجع مسا ، وأحد حدا ، وألذع ميسما ، قال طرفة بن العبد في معلقته المشهورة :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
وكفى بهذا الذنب زاجرا- قوله تعالى- : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ وقول النبي _ صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة قاطع والحديث في الصفحات التالية سيتناول قطيعة الرحم ، وذلك من خلال ما يلي :
- تعريف قطيعة الرحم .
> - مظاهر قطيعة الرحم .
- أسباب قطيعة الرحم .
- علاج قطيعة الرحم .
- ما صلة الرحم ؟
- بأي شيء تكون الصلة؟
- فضائل صلة الرحم .
- الأمور المعينة على صلة الرحم .
- وأخيرا : أسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وأن يعيذنا من قطيعة الأرحام .
وأسأله - عز وجل- أن يجعل هذه الصفحات معينة على البر والصلة ، إنه سميع قريب .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
مظاهر قطيعة الرحم
قطيعة الرحم من الأمور التي تفشتت في مجتمعات المسلمين ، خصوصا في هذه الأعصار المتأخرة التي طغت فيها المادة ، وقل فيه التواصي والتزاور ، فكثير من الناس - والله المستعان- مضيعون لهذا الحق مفرطون فيه .
ولقطيعة الرحم مظاهر عديدة ؛ فمن الناس من لا يعرف قرابته بصلة ؛ لا بالمال ، ولا بالجاه ، ولا بالخلق ، تمضي الشهور ، وربما الأعوام ، وما قام بزيارتهم ، ولا تودد إليهم بصلة ، أو هدية ، ولا دفع عنهم حاجة أو ضرورة أو أذية ، بل ربما أساء إليهم بالقول أو الفعل ، أو بهما جميعا .
ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم ، ولا يواسيهم في أفراحهم ، ولا يتصدق على فقيرهم ، بل تجده يقدم غيرهم عليهم في الصلات الخاصة ، التي هم أحق بها من غيرهم .
ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه ، ويقطعهم إن قطعوه ، وهذا- في الحقيقة- ليس بواصل ، وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله ، وهذا حاصل للقريب وغيره ؛ فإن المكافأة لا تختص بالقريب وحده / 8 انظر : حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة ، للشيخ محمد العثيمين ص12 . وانظر : الأخلاق الإسلامية للشيخ عبد الرحمن الميداني 2/34 . والواصل- حقيقة- هو الذي يصل قرابته لله ، سواء وصلوه أم قطعوه ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطع رحمه وصلها ومن مظاهر قطيعة الرحم أن تجد بعض الناس ممن آتاه الله علما ودعوة- يحرص على دعوة الأبعدين ، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقربين ، وهذا لا ينبغي فالأقربون أولى بالمعروف ، قال الله- عز وجل- لنبه-عليه الصلاة والسلام- : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء : 214] ، . ومن مظاهر القطيعة أن تجد بعض الأسر الكبيرة قد نبغ فيها طالب علم ، أو مصلح ، أو داعية ، فتراه يلقى القبول والتقدير من سائر الناس ، ولا يلقى من أسرته إلا كل كنود وجحود ؛ مما يوهن عظمه ؛ ويوهي قواه ، ويقلل أثره .
ومن مظاهر القطيعة ، تحزيب الأقارب ، وتفريق شملهم ، وتأليب بعضهم على بعض .
هذا وسيأتي مزيد بيان لمظاهر القطيعة عند الحديث عن أسبابها .
فضائل صلة الرحم
أما فضائل صلة الرحم فحدث ولا حرج ؛ ففضائلها كثيرة ، وعوائدها جمة ، وهذه الفضائل تنتظم خيري الدنيا والآخرة ، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك متظاهرة ، وكذلك أقوال العلماء والحكماء ، فمن تلك الفضائل ما يلي :
1- صلة الرحم شعار الإيمان بالله واليوم الآخر : فعن أبى هريرة- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه
2- صلة الرحم سبب لزيادة العمر وبسط الرزق : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه ومما قاله العلماء في معنى زيادة العمر ، وبسط الرزق الواردين في الحديث ما يلي :
1- أن المقصود بالزيادة أن يبارك الله في عمر الإنسان الواصل ، ويهبه قوة في الجسم ، ورجاحة في العقل ، ومضاء في العزيمة ، فتكون حياته حافلة بجلائل الأعمال .
2- أن الزيادة على حقيقتها ؛ فالذي يصل رحمه يزيد الله في عمره ، ويوسع له في رزقه .
ولا غرو في ذلك ؛ فكما أن الصحة وطيب الهواء ، وطيب الغذاء ، واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر- فكذلك صلة الرحم جعلها الله سببا ربانيا ؛ فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان : أمور محسوسة تدخل في إدراك الحواس ، ومدارك العقول . وأمور ربانية إلهية قدرها من هو على كل شيء قدير ، ومن جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته " .
وقد يشكل هذا الأمر على بعض الناس فيقول : إذا كانت الأرزاق مكتوبة ، والآجال مضروبة لا تزيد ولا تنقص ، كما في قوله- تعالى- : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف :34] . فكيف نوفق بين ذلك وبين الحديث السابق .
والجواب : أن القدر قدران :
أحدهما : مثبت ، أو مبرم ، أو مطلق ، وهو ما في أم الكتاب - اللوح المحفوظ- الإمام المبين- فهذا لا يتبدل ولا يتغير .
والثاني : القدر المعلق ، أو المقيد ، وهو ما في صحف الملائكة ، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات .
قال شيخ الإسلام- ابن تيمية- رحمه الله تعالى- : " والأجل أجلان : مطلق يعلمه الله ، وأجل مقيد ، وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم : من سرة أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه
فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا ، وقال : إن وصل رحمه زدته كذا وكذا ، والملك لا يعلم أيزداد أم لا ، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر ، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر " .
وقال في موطن آخر عندما سئل عن الرزق :
هل يزيد أو ينقص ؟
فأجاب :الرزق نوعان : أحدهما : ما علمه الله أن يرزقه ، فبهذا لا يتغير ، والثاني : ما كتبه ، وأعلم به الملائكة فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب
ثم إن : " الأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه ؛ فإن كان قد تقدم بأن يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب ، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب ، وما قدره له بغير اكتساب- كموت مورثه- يأتيه بغير اكتساب " .
" فلا مخالفة في ذلك لسبق العلم ، بل فيه تقييد المسببات بأسبابها ، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، فهل يقول عاقل بأن ربط المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق ، أو ينافيه بوجه من الوجوه " .
3- صلة الرحم تجلب صلة الله للواصل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؛ قالت : بلى ، قال : فذلك لك
4- صلة الرحم من أعظم أسباب دخول الجنة : فعن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- أن رجلا قال : يا رسول الله ، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم
5- صلة الرحم طاعة لله عزوجل : فهي وصل لما أمر الله به أن يوصل .
قال- تعالى- مثنيا على الواصلين : وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد :21]
6- وهي من محاسن الدين : فالإسلام دين الصلة ، ودين البر والرحمة ، فهو يأمر بالصلة ، وينهى عن القطيعة ، مما يجعل جماعة المسلمين مترابطة ، متآلفة ، متراحمة ، بخلاف الأنظمة الأرضية التي لا ترعى ذلك الحق ، ولا توليه اهتمامها .
7- وهى مما اتفقت عليه الشرائع : فالشرائع السماوية كلها أمرت بالصلة ، وحذرت من ضدها ، وهذا يدل على فضلها ، وعظم شأنها .
8- صلة الرحم مدعاة للذكر الجميل : فهي مكسبة للحمد ، مجلبة للثناء الحسن ، حتى إن أهل الجاهلية ليتمدحون بها ، ويثنون على أصحابها ؛ فهذا الأعشى يمدح الأسود بن المنذر بن يزيد اللخمي ، فيقول :
عنده الحزم والتقى وأسى الصرع
وحمل لمضلع الأثقال
وصلات الأرحام قد علم الناس
وفك الأسرى من الأغلال
9- أنها تدل على الرسوخ في الفضيلة : فهي دليل كرم النفس ، وسعة الأفق ، وطيب المنبت ، وحسن الوفاء ، وصدق المعشر .
ولهذا قيل : " من لم يصلح لأهله لم يصلح لك ، ومن لم يذب عنهم لم يذب عنك " .
10- شيوع المحبة بين الأقارب : فبسببها تشيع المحبة ، وتسود الألفة ، ويصبح الأقارب لحمة واحدة ، وبهذا يصفو عيشهم ، وتكثر مسراتهم .
11- رفعة الواصل : فإن الإنسان إذا وصل أرحامه ، وحرص على إعزازهم- أكرمه أرحامه ، وأعزوه ، وأجلوه ، وسودوه ، وكانوا عونا له .
ولم أر عزم لامرئ كعشيرة
ولم أر ذلا مثل نأي عن الأهل
12- عزة المتواصلين : فالأرحام المتواصلون ، المتوادون المتآلفون- يعلو قدرهم ، ويرتفع ذكرهم ، فيكون لهم شأن ، ويحسب لهم ألف حساب ، فلا يتجرأ أحد أن يسومهم خطة ضيق ، أو أن يمسهم بلفحة من نار ظلم ؛ فيظلون بأعز جوار ، وأمنع ذمار .
بخلاف ما إذا تقاطعوا ، وتدابروا ؛ فإنهم يذلون ويسترذلون ، فيلقون هوانا بعد عز ، وضعة بعد رفعة ، ونزولا بعد شمم .
***
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد : فإن قطيعة الرحم ذنب عظيم ، وجرم جسيم ، يفصم الروابط ، ويقطع الشواجر ، ويشيع العداوة والشنآن ، ويحل القطيعة والهجران .
وقطيعة الرحم مزيلة للألفة والمودة ، مؤذنة باللعنة وتعجيل العقوبة ، مانعة من نزول الرحمة ودخول الجنة ، موجبة للتفرد والصغار والذلة .
وهي- أيضا - مجلبة لمزيد الهم والغم ؛ ذلك أن البلاء إذا أتاك ممن تنتظر منه الخير والبر والصلة- كان ذلك أشد وقعا ، وأوجع مسا ، وأحد حدا ، وألذع ميسما ، قال طرفة بن العبد في معلقته المشهورة :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
وكفى بهذا الذنب زاجرا- قوله تعالى- : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ وقول النبي _ صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة قاطع والحديث في الصفحات التالية سيتناول قطيعة الرحم ، وذلك من خلال ما يلي :
- تعريف قطيعة الرحم .
> - مظاهر قطيعة الرحم .
- أسباب قطيعة الرحم .
- علاج قطيعة الرحم .
- ما صلة الرحم ؟
- بأي شيء تكون الصلة؟
- فضائل صلة الرحم .
- الأمور المعينة على صلة الرحم .
- وأخيرا : أسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وأن يعيذنا من قطيعة الأرحام .
وأسأله - عز وجل- أن يجعل هذه الصفحات معينة على البر والصلة ، إنه سميع قريب .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
مظاهر قطيعة الرحم
قطيعة الرحم من الأمور التي تفشتت في مجتمعات المسلمين ، خصوصا في هذه الأعصار المتأخرة التي طغت فيها المادة ، وقل فيه التواصي والتزاور ، فكثير من الناس - والله المستعان- مضيعون لهذا الحق مفرطون فيه .
ولقطيعة الرحم مظاهر عديدة ؛ فمن الناس من لا يعرف قرابته بصلة ؛ لا بالمال ، ولا بالجاه ، ولا بالخلق ، تمضي الشهور ، وربما الأعوام ، وما قام بزيارتهم ، ولا تودد إليهم بصلة ، أو هدية ، ولا دفع عنهم حاجة أو ضرورة أو أذية ، بل ربما أساء إليهم بالقول أو الفعل ، أو بهما جميعا .
ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم ، ولا يواسيهم في أفراحهم ، ولا يتصدق على فقيرهم ، بل تجده يقدم غيرهم عليهم في الصلات الخاصة ، التي هم أحق بها من غيرهم .
ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه ، ويقطعهم إن قطعوه ، وهذا- في الحقيقة- ليس بواصل ، وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله ، وهذا حاصل للقريب وغيره ؛ فإن المكافأة لا تختص بالقريب وحده / 8 انظر : حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة ، للشيخ محمد العثيمين ص12 . وانظر : الأخلاق الإسلامية للشيخ عبد الرحمن الميداني 2/34 . والواصل- حقيقة- هو الذي يصل قرابته لله ، سواء وصلوه أم قطعوه ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطع رحمه وصلها ومن مظاهر قطيعة الرحم أن تجد بعض الناس ممن آتاه الله علما ودعوة- يحرص على دعوة الأبعدين ، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقربين ، وهذا لا ينبغي فالأقربون أولى بالمعروف ، قال الله- عز وجل- لنبه-عليه الصلاة والسلام- : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء : 214] ، . ومن مظاهر القطيعة أن تجد بعض الأسر الكبيرة قد نبغ فيها طالب علم ، أو مصلح ، أو داعية ، فتراه يلقى القبول والتقدير من سائر الناس ، ولا يلقى من أسرته إلا كل كنود وجحود ؛ مما يوهن عظمه ؛ ويوهي قواه ، ويقلل أثره .
ومن مظاهر القطيعة ، تحزيب الأقارب ، وتفريق شملهم ، وتأليب بعضهم على بعض .
هذا وسيأتي مزيد بيان لمظاهر القطيعة عند الحديث عن أسبابها .
فضائل صلة الرحم
أما فضائل صلة الرحم فحدث ولا حرج ؛ ففضائلها كثيرة ، وعوائدها جمة ، وهذه الفضائل تنتظم خيري الدنيا والآخرة ، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك متظاهرة ، وكذلك أقوال العلماء والحكماء ، فمن تلك الفضائل ما يلي :
1- صلة الرحم شعار الإيمان بالله واليوم الآخر : فعن أبى هريرة- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه
2- صلة الرحم سبب لزيادة العمر وبسط الرزق : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه ومما قاله العلماء في معنى زيادة العمر ، وبسط الرزق الواردين في الحديث ما يلي :
1- أن المقصود بالزيادة أن يبارك الله في عمر الإنسان الواصل ، ويهبه قوة في الجسم ، ورجاحة في العقل ، ومضاء في العزيمة ، فتكون حياته حافلة بجلائل الأعمال .
2- أن الزيادة على حقيقتها ؛ فالذي يصل رحمه يزيد الله في عمره ، ويوسع له في رزقه .
ولا غرو في ذلك ؛ فكما أن الصحة وطيب الهواء ، وطيب الغذاء ، واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر- فكذلك صلة الرحم جعلها الله سببا ربانيا ؛ فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان : أمور محسوسة تدخل في إدراك الحواس ، ومدارك العقول . وأمور ربانية إلهية قدرها من هو على كل شيء قدير ، ومن جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته " .
وقد يشكل هذا الأمر على بعض الناس فيقول : إذا كانت الأرزاق مكتوبة ، والآجال مضروبة لا تزيد ولا تنقص ، كما في قوله- تعالى- : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف :34] . فكيف نوفق بين ذلك وبين الحديث السابق .
والجواب : أن القدر قدران :
أحدهما : مثبت ، أو مبرم ، أو مطلق ، وهو ما في أم الكتاب - اللوح المحفوظ- الإمام المبين- فهذا لا يتبدل ولا يتغير .
والثاني : القدر المعلق ، أو المقيد ، وهو ما في صحف الملائكة ، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات .
قال شيخ الإسلام- ابن تيمية- رحمه الله تعالى- : " والأجل أجلان : مطلق يعلمه الله ، وأجل مقيد ، وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم : من سرة أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه
فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا ، وقال : إن وصل رحمه زدته كذا وكذا ، والملك لا يعلم أيزداد أم لا ، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر ، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر " .
وقال في موطن آخر عندما سئل عن الرزق :
هل يزيد أو ينقص ؟
فأجاب :الرزق نوعان : أحدهما : ما علمه الله أن يرزقه ، فبهذا لا يتغير ، والثاني : ما كتبه ، وأعلم به الملائكة فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب
ثم إن : " الأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه ؛ فإن كان قد تقدم بأن يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب ، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب ، وما قدره له بغير اكتساب- كموت مورثه- يأتيه بغير اكتساب " .
" فلا مخالفة في ذلك لسبق العلم ، بل فيه تقييد المسببات بأسبابها ، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، فهل يقول عاقل بأن ربط المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق ، أو ينافيه بوجه من الوجوه " .
3- صلة الرحم تجلب صلة الله للواصل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؛ قالت : بلى ، قال : فذلك لك
4- صلة الرحم من أعظم أسباب دخول الجنة : فعن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- أن رجلا قال : يا رسول الله ، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم
5- صلة الرحم طاعة لله عزوجل : فهي وصل لما أمر الله به أن يوصل .
قال- تعالى- مثنيا على الواصلين : وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد :21]
6- وهي من محاسن الدين : فالإسلام دين الصلة ، ودين البر والرحمة ، فهو يأمر بالصلة ، وينهى عن القطيعة ، مما يجعل جماعة المسلمين مترابطة ، متآلفة ، متراحمة ، بخلاف الأنظمة الأرضية التي لا ترعى ذلك الحق ، ولا توليه اهتمامها .
7- وهى مما اتفقت عليه الشرائع : فالشرائع السماوية كلها أمرت بالصلة ، وحذرت من ضدها ، وهذا يدل على فضلها ، وعظم شأنها .
8- صلة الرحم مدعاة للذكر الجميل : فهي مكسبة للحمد ، مجلبة للثناء الحسن ، حتى إن أهل الجاهلية ليتمدحون بها ، ويثنون على أصحابها ؛ فهذا الأعشى يمدح الأسود بن المنذر بن يزيد اللخمي ، فيقول :
عنده الحزم والتقى وأسى الصرع
وحمل لمضلع الأثقال
وصلات الأرحام قد علم الناس
وفك الأسرى من الأغلال
9- أنها تدل على الرسوخ في الفضيلة : فهي دليل كرم النفس ، وسعة الأفق ، وطيب المنبت ، وحسن الوفاء ، وصدق المعشر .
ولهذا قيل : " من لم يصلح لأهله لم يصلح لك ، ومن لم يذب عنهم لم يذب عنك " .
10- شيوع المحبة بين الأقارب : فبسببها تشيع المحبة ، وتسود الألفة ، ويصبح الأقارب لحمة واحدة ، وبهذا يصفو عيشهم ، وتكثر مسراتهم .
11- رفعة الواصل : فإن الإنسان إذا وصل أرحامه ، وحرص على إعزازهم- أكرمه أرحامه ، وأعزوه ، وأجلوه ، وسودوه ، وكانوا عونا له .
ولم أر عزم لامرئ كعشيرة
ولم أر ذلا مثل نأي عن الأهل
12- عزة المتواصلين : فالأرحام المتواصلون ، المتوادون المتآلفون- يعلو قدرهم ، ويرتفع ذكرهم ، فيكون لهم شأن ، ويحسب لهم ألف حساب ، فلا يتجرأ أحد أن يسومهم خطة ضيق ، أو أن يمسهم بلفحة من نار ظلم ؛ فيظلون بأعز جوار ، وأمنع ذمار .
بخلاف ما إذا تقاطعوا ، وتدابروا ؛ فإنهم يذلون ويسترذلون ، فيلقون هوانا بعد عز ، وضعة بعد رفعة ، ونزولا بعد شمم .
***