• مرحبا بكم

    تم تطوير شبكة ومنتديات الجميزه للتماشى مع التطور الحقيقي للمواقع الالكترونيه وبهدف تسهيل التصفح على زوارنا واعضائنا الكرام لذلك تم التطوير وسيتم ارسال اشعار لكل الاعضاء على بريدهم الالكترونى لإعلامهم بان تم تطوير المنتدى

كيف يعدل القرآن السلوك الإنساني والعقل

كيف يعدل القرآن السلوك الإنساني والعقل


3-1- كيف يغير القرآن الانسان؟


3-1-1- ضرورة الانسجام بين القول والسلوك
قال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون- كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" الصف 2،3. في هذه الآيات تحذير شديد للمؤمنين من مخالفة فعلهم لقولهم. والمشاهد لأحوالنا يجد أن الحال يختلف عن المقال، فالكثير يتكلم وينصح والقليل من تتمثل فيه هذه الأقوال والنصائح.. والكل يريد أن تكون أفعاله على مستوى أقواله لكنه لا يستطيع، فإن تكلف ذلك فترة من الزمن فسرعان ما يعود إلى سابق عهده. نتكلم كذلك عن ضرورة الإحسان إلى الزوجة ومعاشرتها بالمعروف، ونتبارى في إلقاء الكلمات المعبرة عن ذلك، وإذا بشكاوى الزوجات من سوء معاملة أزواجهن تصم الآذان. نتحدث كثيراً عن حقيقة الدنيا وأنها ارتحال وليست دار مقام وان الانسان لن يأخذ شيئاً معه عند خروجه منها، ثم تجد منا الحرص على التملك فيها، واللهفة على تحصيل أكبر قدر منها، وكأننا لن نغادرها. ... وغير ذلك من الأمثلة التي تكشف حجم الهوة بين الواجب والواقع، والقول والسلوك. إذن فلكي يصبح الواحد منا سلوك سوى، بفهم صحيح، وبصدق وإخلاص لا بد إذن أن يشمل التغيير عقله وقلبه وروحه. فإن كان الأمر كذلك فما هو المنهج القادر على إحداث هذا التغيير في هذه المحاور الثلاثة، والذي ينبغي أن يكون ميسراً أمام الجميع؟.


3-1-2-دور القرآن في التغيير
... هنا يأتي دور القرآن العظيم وتظهر قيمة معجزته الكبرى. فالقرآن لا يكتفي بتعريف الناس طريق الهدى، ولا يؤدي فقط دور المصباح الذي يشع النور فيبدد الظلمات، وينير طريق السالكين إلى الله ، بل يقوم بنفسه بإخراج من يتمسك به من الظلمات إلى النور، وتغييره وإعادة تشكيله ليصبح عبداً مخلصاً لله في كل أموره وأحواله. قد يقول قائل : أن معجزة القرآن تكمن في أسلوبه وبلاغته وتحديه للبشرية وأنه صالح لكل زمان ومكان و ... ... نعم هذا كله من أوجه إعجازه، ولكن يبقى سر إعجازه الأعظم في قدرته على التغيير ... تغيير أي إنسان ، ومن أي حال يكون فيه ، ليتحول من خلاله أي إنسان آخر عالماً بالله، عابداً له في كل أموره وأحواله، حتى يتمثل فيه قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) الأنعام 162.


3-1-3- مراحل التغيير
يستلزم التغيير هذه المراحل :
أولاً : اقتناع العقل المدرك بالأفكار الجديدة.
ثانياً : تكرار مرور تلك الأفكار على العقل .
ثالثاً : ممارسة مقتضيات تلك الأفكار.
رابعا: اصغاء القلب للعقل

.. وهذا ما يفعله القرآن . فالقرآن يعيد تشكيل العقل من جديد، ويصوب كل فكرة خاطئة لديه، ويبني فيه اليقين الصحيح لكل الأفكار والمعتقدات.

3-2- مخاطبة العقل

3-2-1- السلوك والقناعة

يتحرك الانسان من خلال قناعاته الشخصية، فإذا ما أردت تغيير سلوك شخص ما فعليك أولاً أن تبدأ بتغيير قناعاته تجاه ما تريد، أما إذا حاولت أن تقفز مباشرة إلى السلوك لتغيره دون أن تبدأ بالفكر فلن تصل إلى النتيجة التي ترجوها، وإن أبدى أمامك استجابة سريعة لأوامرك- وبخاصة إذا ما كان لك عليه سلطان- فإن هذه الاستجابة تكون وقتية لا تستمر طويلا. لا بد إذن من مخاطبة العقل وتغيير الفكر والمعتقد أولاً إذا ما أردنا تغيير السلوك. من هنا يتبين لنا أن الخطوة الأولى والأساسية لتغيير السلوك هي تغيير فكره، وليس المقصد من تغيير الفكر تلك القناعة العابرة التي يبديها العقل نتيجة قراءة أو مناقشة، فهذا من شأنه أن تحدث تغييراً وقتياً ينتهي مفعوله بغياب الفكرة من العقل، ولكن إذا ما أردنا تغييراً مستمراً فهذا أمر آخر يتطلب الحديث عن الشعور واللاشعور.


3-2-2- اهمية اقناع العقل
الاقتناع بالفكرة هو الخطوة الأولى في طريق التغيير، حيث يسمح العقل المدرك بمرورها بعد ذلك إلى اللاشعور ليصبح السلوك المعبر عنها يصدر بطريقة تلقائية. من هنا يبرز احترام القرآن للعقل ودوام مخاطبته وإقناعه بأهمية الفكرة المطروحة. والقارىء المتدبر للقرآن يجد المولى سبحانه وتعالى- وهو الكبير المتعال- يخاطب عقولنا ويبين لنا الكثير من الأمور من شأنها أن تقنعنا بما يريده منا، بل أن سبحانه وتعالى يدعونا في كتابه إلى استخدام عقولنا والتفكر في كلامه كقوله تعالى : ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) البقرة 266 لنقتنع بما يحمله هذا الكلام من معان وأفكار، فينتقل ذلك كله إلى اللاشعور، ويترسخ فيه ، لينطلق بعد ذلك السلوك المعبر عنها بصورة تلقائية.


3-2-3- طرق مخاطبة العقل في القرآن
1-الادلة العقلية:
"ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون" المائدة 75.

2-ضرب الأمثال
والتي تعتبر من أهم وسائل تبسيط المعلومة وربط الذهن بها ، فالمعلم القدير هو الذي يقدم العلم للناس في أمثلة تجعلهم يقتربون من الموضوع أكثر. قال تعالى : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)

3-طرح الأسئلة وترك الإجابة للعقل ليصل إلى المعنى المراد من ورائها،
مثل قوله تعالى : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ص 28 .

3-3- مخاطبة اللاشعور

3-3-1- الشعور واللاشعور:
الناس يتحدثون عن العدل والمساواة ولكن عند التطبيق يظهرون بالقيم العشائرية... فما السبب في ذلك؟ السبب الرئيسي لهذا التناقض بين القول والفعل أن العقل يستقبل المعلومات بجزئه المدرك الواعي والذي يسميه العلماء بالشعور.. هذه المعلومات لن تستطيع أن تكون دافعاً مستمراً للأعمال إلا إذا أصبحت علماً راسخاً عند الإنسان، وانتقلت من منطقة الوعي والإدراك والشعور إلى منطقة اللاشعور أو العقل الباطن أو الأخفى على حد تعبير القرآن . قال تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) طه 7. فالسر كما يقول ابن عباس رضي الله عنه-: ما أسر ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفى على ابن آدم مما هو فاعله. فاللاشعور أو الأخفى هو منطقة العلم الراسخ اليقيني عند الإنسان ، ومن خلاله تنطلق الأفعال بصورة تلقائية. ولقد ضرب القرآن مثالاً لأناس اعتقدوا أنهم مصلحون، ولكن سلوكهم يدل على عكس ذلك.. لماذا؟ لأنهم يفسدون بطريقة تلقائية من اللاشعور. قال تعالى) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون(* البقرة 11-12.

3-3-2- ظهور تأثير العقل الباطن:
ويظهر هذا بوضوح من خلال استجابة المحتضرين لمن يلقنهم الشهادة، بل قد نجد الواحد منهم يردد ما كان يغلب على اهتمامه في حياته. جاء في كتاب الداء والدواء لابن القيم: أنه قيل لرجل يحتضر: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول ابن القيم: وأخبرني من حضر الشحاذين عند موته فجعل يقول: لله، فلس لله، حتى قضي. وأخبرني بعض التجار عن قرابة أنه احتضر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه (لا إله إلا الله ) وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشتر جيد، هذا كذا حتى قضى.


3-3-3- القرآن واللاشعور:
مما سبق يتبين لنا أن من أسباب عدم مطابقة الفعل للقول هو ما ترسب لدى الإنسان في عقله الباطن من أفكار ومعتقدات، والتي من الجائز أن يقتنع العقل المدرك بعكسها في لحظة من اللحظات، لكنه عند التطبيق يصدر من سلوك معبر عن يقينه ومعتقداته الراسخة لديه. فعلى سبيل المثال لو ناقشت شخصاً ما في قضية الرزق وأنه بيد الله عز وجل وقد ضمنه لنا، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فستجد منه اقتناعاً تاماً بذلك، ولكن عند التطبيق في معترك الحياة نجد أن الأمر يختلف حيث اللهفة والحرص على المال وكثرة التفكير في المستقبل والخوف من الفقر. .. إذن فالخطوة الأولى في تغيير السلوك تبدأ بتغيير ما ترسب لدينا من أفكار ومعتقدات خاطئة واستبدالها بأفكار ومعتقدات صحيحة.


3-3-4- تكرار الموضوعات
الاقتناع بالفكرة هو الخطوة الأولى في طريق التغيير، حيث تنتقل هذه الفكرة من العقل المدرك إلى اللاشعور، ولكنها لن تستقر فيه إلا إذا حدث لها تكرار وتكرار. ولعلنا جميعاً نلحظ ذلك، فعندما يحدث اقتناع بفكرة ما في لحظة من اللحظات تجد الواحد منا كثيراً ما يعبر عن هذا الاقتناع بعمل من الأعمال، كمن قرأ أو سمع عن أهمية مساعدة المحتاجين ثم وجد أمامه محتاجاً، ففي الغالب أنه سيتصدق عليه ولو بالقليل، هذا الفعل قد لا يتكرر من صاحبه ثانية إلا إذا استمر التذكير بأهميته بين الفينة والأخرى.


من هنا تبرز قيمة التكرار كوسيلة من وسائل بناء اليقين الصحيح والتي يستخدمها القرآن، فالمتتبع للموضوعات المطروحة فيه يجدها متكررة ومتشابهة، كما قال تعالى: ( الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً) الزمر 23. وقال تعالى: ( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) الفرقان 50. وصرفناه أي كررناه بأساليب مختلفة . .. ومن فوائد التكرار كذلك أنه يجعل القارىء في حالة دائمة من التذكر واليقظة. والموضوعات التي تتكرر في القرآن كثيرة تقف على قمتها تلك الموضوعات التي تتناول جوانب الايمان بالله واليوم الآخر...


3-3-5- حث القرآن على المداومة على العبادات
تحول المعلومة من الشعور إلى اللاشعور وثباتها فيه يحتاج إلى تكرار التفكير فيها، واسترجاعها بين الحين والآخر وإلا تلاشى وجودها شيئا فشيئا. فكم من أعمال ومهارات وأناشيد وجمل مأثورة تعلمناها في الصغر ودخلت اللاشعور، ثم تلاشت منه أو كادت بسبب إخمالها وعدم استرجاعها كل فترة . ومن هنا تأتي الممارسة العملية المتكررة المعبر عن الأفكار التي نريد ترسيخها في اللاشعور، ولعلنا نلمح هذا المعنى من تأكيد رسولنا صلى الله عليه وسلم على أهمية المداومة على العمل- وإن قل – ليظل مدلوله راسخاً في اللاشعور. عن عائشة- رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله سصلى الله عليه وسلم : "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل


3-4- مخاطبة القلب

3-4-1- الرضا القلبي اساس مهم
نعم إن الاقتناع العقلي هو المنطلق الأساسي للسلوك، ومع هذا يبقى هذا الاقتناع بحاجة إلى رضا قلبي به لتنطلق الجوارح بالأفعال المؤيدة لما في العقل من أفكار، فالعقل مهما كان وضعه إلا أنه في النهاية ما هو إلا جندي من جنود القلب، فالقلب هو الملك، وما من عمل تقوم به الجوارح إلا ويمر من خلال القلب ويأخذ موافقته ورضاه عليه، كما قال تعالى: ( ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) الأنعام 113. فالسلوك يبدأ-كما توضح الآية- بإصغاء من القلب لصوت العقل ثم رضا بذلك لتكون النتيجة اقتراف الفعل..


وهذا ما يؤكده كذلك قوله تعالى: ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) التحريم 4. أي أنصتت قلوبكما لصوت العقل وارتضته فكانت التوبة. فالاقتناع العقلي هو نقطة البداية التي لا بد أن يتبعها إصغاء من القلب ثم رضا منه بمقتضياته ... ولكن قد يقتنع العقل بقضيته من القضايا لكن القلب لا يستطيع أن يتخذ القرار بتنفيذ مقتضى هذا الاقتناع.. أتدرون لماذا؟ لغلبة سلطان النفس وهواها وسيطرتها عليه، كما قال تعالى "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم" القصص 50. فما هو الهوى وما مدى علاقته بالقلب؟ .


3-4-2- القلب بين الإيمان والهوى:
من تعريفات القلب أنه مجموعة المشاعر والعواطف داخل الإنسان من حب وكره، وفرح وخوف ورجاء، القلب كما نعلم هو الملك على سائر الأعضاء كما في الحديث:

(... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهو القلب)... هذا القلب يتجاذبه طرفان: إيمان وهوى. أما الإيمان فهو تصديق القلب لحقائق العقل، أو بمعنى آخر: اتجاه المشاعر لما قرره العقل من حقائق، فالإيمان محله القلب كما قال تعالى: ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)* الحجرات 14. وأما الهوى فهو اتجاه المشاعر لما تميل إليه النفس من شهوات حسية كانت أو معنوية. وعلى قدر قوة أحد الطرفين – اٌيمان أو الهوى – تكون له الغلبة على إرادة القلب، ومن ثم يكون من نصيبه الأمر الصادر من القلب للجوارح . ففي الحديث :" لا يزنى العبد حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن " . فلحظات الزنى أو السرقة أو القتل عكست انتصار الهوى على الإيمان، وقوة سيطرته على المشاعر.


3-4-3- مرض القلب وصحته:
معنى مرض القلب أي عدم صحته ، أو بعبارة أخرى اتجاه مشاعره نحو الهوى حتى يسيطر عليها ، وبقدر هذه السيطرة يكون المرض، وعندما تتجه المشاعر كلها للهوى يتمكن المرض من القلب وتنتفي عنه الصحة، ويصبح داعي الهوى هو الآمر الناهي المطاع، كما صور ذلك القرآن في قوله تعالى ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ) الفرقان 43. وصور اتباع الهوى كثيرة وتشمل كل ما تميل إلى النفس، ويجمعها قاعدة واحدة تنطلق منها وهي حب الدنيا. فمن تلك الصور اتباع الشهوات، قال تعالى "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا) مريم 59. ومنها طلب العلو في الأرض: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا) النمل 14. ومنها كذلك الخوف على الرزق والحياة. قال تعالى: ( وقالوا أن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) القصص 57. وفي المقابل فإن عودة القلب إلى صحته تعنى تخلص مشاعره من سيطرة الهوى واتجاهها إلى الله عز وجل . قال صلى الله عليه وسلم :" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".


3-4-4- الإيمان أولاً:
إذن فعندما نرى سلوكاً معوجاً من شخص ما: كمن بدأ يتهاون في أداء الصلاة ، أو من يطلق بصره إلى المحرمات، فإن هذا يعكس قوة سلطان الهوى على مشاعره، ومن ثم فإن الطريقة الصحيحة لتقويمه ليست بإنكار أفعاله فقط ، فهو يعلم جيداً خطأ ما يفعل، وإنما تكون بالعمل على زيادة الإيمان في قلبه ليصبح هو الدافع للأعمال.

وهذا ما نلحظه في قوله تعالى "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" الحج 32. وفي الدعاء :" اللهم أقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك "

3-4-5- القرآن ودوره في دخول الإيمان القلب:
دخول الإيمان والنور في القلب نعمة عظيمة من الله عز وجل، فالإيمان محض فضل من الله عز وجل يمنحه لمن يجد عنده الرغبة فيه، كما في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم" . ومما لا شك فيه أن القناعة العقلية هي مبدأ هذه الرغبة .. هذه القناعة لا بد لها أن تمتزج بميل قلبي وعاطفة تنتظر اللحظة المناسبة التي يمن الله فيها عليها. فتتوهج وينشرح صدر صاحبها للإيمان ، قال تعالى: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الأنعام 125.

وهنا يأتي دور القرآن .. فمن أقبل على القرآن وهو يبحث فيه عن الهدى وجده... لماذا؟ لأنه سيجد فيه رداً شافياً على ما يتردد في عقله من تساؤلات حول قضية الوحدانية، وقصة الوجود وما بعد الموت و...


ولكن هذا كله لا يكفي- كما ذكرنا- فالقناعة العقلية إن لم يصاحبها إصغاء قلبي فستظل حبيسة العقل، كما قال تعالى ( إنما يستجيب الذين يسمعون). الأنعام 36. وهنا يأتي الدور الآخر للقرآن ألا وهو قدرته على إثارة المشاعر وتأجيجها، فالقرآن ليس تذكرة للعقول فقط، لكنه أيضاً موعظة تثير المشاعر والعواطف. قال تعالى "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) يونس 57.


3-4-6- دور الموعظة في اثارة القلب :
الموعظة كالسياط تهز القلب وتهيئه للإصغاء إلى صوت العقل فتنشأ الرغبة، ويزداد الشوق إلى الإيمان الذي يدخل نوره القلب في الوقت. يقول تعالى يعدل القرآن السلوك الإنساني والعقل وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) البقرة 23. فهذا خطاب موجه للعقل يحمل تحدياً معجزاً ولكن لا يكفي لحدوث الرضا القلبي ، بل لا بد من هز القلب ، وإثارة مشاعره ، وهذا ما نجده في الآيات التالية للآية السابقة ) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ، وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ) البقرة 24-25. فامتزاج الفكر بالعاطفة هو طريقة القرآن الفريدة في تحويل وجهة القلب إلى الله عز وجل ، لينتظر القلب بعد ذلك فضل الله سبحانه وتعالى في إدخال نور الإيمان إليه .


3-5- كيف يحدث الانتقال من الكفر الى الايمان

3-5-1 - مستويات التفكير
اثبت العلم ان الانسان غير واع في 99 بالمائة من حياته بل يعيش في وهم انه واع.. ونقصد بالوعي هنا سيطرة العقل الواعي.. ان العقل الباطن وبالتلالي العادات هي التي تسيطر على حياتنا.. وما نظنه تفكيرا عند اختيار خيار ما في الحقيقة لا يعدو كونه تطبيقا للبرمجة التي برمجت في عقلنا الباطن.. فلنقسم افعال الانسان الى اربع انواع:

1-ردات الفعل الغريزية التي لا نتحكم فيها كالتنفس و اللارتعاش
2-العادات التي تعلمناها ورسخت في العقل الباطن بحيث نقوم بها من دون تفكير مثل قيادة السيارة
3-التفكير والاختيار المبني على المعطيات السابقة التي رسخت في العقل الباطن مثل ميلك الى الاعتقاد بخطأ من تكرهه


4-التفكير الراقي الذي يتجلى في لحظات الوعي الكامل


3-5-2 – الصدمة هي التي تنقل الانسان الى حالة الوعي الكامل
حتى ينتقل الانسان الى لحظة الوعي الكامل يحتاج الى صدمة شعورية تهز كيانه وتدفعه الى اعادة النظر في المعلومات التي سبق له وان حصلها فالايمان اذن مربوط بعاملين: عامل المعلومات وعامل الصدمة.. لذلك نجد ان سحرة فرعون آمنوا بالله بمجرد حصول صدمة تحول عصا موسى عليه السلام الى ثعبان عظيم يلقف سحرهم فالمعلومات اللازمة للايمان كانت موجودة عندهم بلا شك بدليل قولهم "قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {72} إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {73} إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى {74} وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى" فمن الواضح ان معلوماتهم عن الدين موجودة مسبقا وانه لم يكن ينقصهم الا القرار..




3-5-3- انواع الصدمة:

- صدمة عاطفية
كموت شخص عزيز علينا. فكثير من الناس اهتدوا الى الايمان بعد ان توفي شخص عزيز عليهم.. وفي نموذج عمر بن الخطاب رضي الله عنه نجد ان صدمة نزول الدم من اخته حينما ضربها كانت صدمة عاطفية ايجابية له دفعته الى الخروج من حالة الغضب التي تملكته والتفكير بعقلية جديدة لم يعهدها من قبل.



- صدمة فكرية:


كأن يسقط وهم كبير كان يعيش به وينتبه فجأة الى تهافت افكاره ومن هنا حرص الانبياء عليهم السلام على احداث صدمة ايجابية في فكر الكفار كما فعل سيدنا ابراهيم عليه السلام مرارا مع قومه حيث اثبت لهم باسلوب الصدمة بطلان وجود آلهة الا الله.. فالاصنام لا يستطيعون الدفاع عن انفسهم والكواكب تشرق وتغرب فليست جديرة بالالوهية والانسان لا يستطيع ان يحيي ويميت او أن يتحكم بالكواكب..


صدمة وجدانية

فكثير من الناس آمنوا بوجود اله لدى حدوث صدمة وجدانية هزتهم في العمق فاحد الملحدين آمن بالله لأنه تأمل في اذن ابنته وتركيبتها وايقن ان هذا الابداع لا يأتي الا من لدن عليم خبير وكذلك كثير من العلماء الاجانب اعتنقوا الاسلام لدى اطلاعه على الاعجاز العلمي في القرآن..


3-5-4- في حالة الصدمة يكون الانسان امام خيارين: الايمان او الجحود
لحظة التجلي هذه هي التي يحاسب عليها الانسان بشكل اساسي اذ يكون في قمة الوعي ولا عذر لديه بأنه لم يلمس الحق ففي هذه اللحظات يظهر الحق وضوح الشمس وتتيقن النفس منه ولا يعود من عائق امام الايمان الا هوى النفس وهؤلاء من وصفهم القرآن بقوله "وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم"


وفيما يلي امثلة من هذه اللحظات وما تلاها من ايمان او كفر
- قوم ابراهيم: قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63} فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (لم يؤمنوا رغم صدمة الحق)

- النمرود: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي

وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (لم يؤمن رغم صدمة الحق)

- سحرة فرعون: قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى {68} وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا

كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى {69} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى {70} قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى {71} قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {72} إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {73} إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى {74} وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (آمنوا واستشهدوا في سبيل ايمانهم)


3-5-4- نماذج من السنة
1- نموذج عتبة:

ذهب عتبة بن ربيعة احد صناديد الكفر الى رسول الله ليحاوره، ويعرض عليه ترك دعوته ودينه مقابل ما يريد من مال أو جاه أو ملك. فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن انتظر حتى فرغ من كلامه ثم تلا عليه صدر سورة فصلت حتى قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود(. فلم يستطع عتبة أن يتحمل أكثر من ذلك فوضع يده على في رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم أن يسكت ، وعاد إلى قومه فقال بعضهم لبعض: نخلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ، قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله من قبل ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة....

والمتأمل للآيات التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة يجدها تخاطب العقل وتقنعه بوحدانية الله عز وجل وبملكه التام والمطلق لهذا الكون ، وفي نفس الوقت فإن الآيات تثير المشاعر وتهز القلب وتخوفه، فينتج عن هذا امتزاج الفكر بالعاطفة ، وهذا ما حدث لعتبة لكنه لم يستثمر الفرصة العظيمة التي سنحت له .


2- نموذج عمر بن الخطاب رضي الله عنه
جنَّ جنون عمر حين سمع باسلام اخته، وأسرع من توّه إلى عقر داره وبيت أخته الذي اخترقه محمد صلى الله عليه وسلم لا يلوي على أحد. في تلك الأثناء كان خباب بن الأرت رضي الله عنه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن، فقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يقسم المسلمين إلى مجموعات، كل مجموعة تتدارس القرآن فيما بينها، ثم يجتمعون بعد ذلك في لقاء جامع معه محمد صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وقد كان خباب رضي الله عنه يقوم بدور المعلم لسعيد وزوجته.

وصل عمر إلى بيت أخته، وقبل دخوله سمع همهمة وأصواتًا غريبة، وبعنفٍ أخذ يطرق الباب وينادي بصوته الجهوريّ أن افتحوا. أدرك من بالداخل أن عمر بالباب، فأسرع خباب رضي الله عنه - وكان من الموالي - بالاختفاء في غرفة داخلية، وقد قال: "لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن ينجو خباب".

وفتح سعيد الباب، ودخل عمر وهو يحترق من الغضب، لا يسيطر على نفسه والكلمات تتطاير من فمه، والشرر يقذف من عينيه، ودون استئذان يسأل:ما هذه الهمهمة (الصوت الخفي غير المفهوم) التي سمعت؟

ردَّا عليه: ما سمعتَ شيئًا. قال عمر: بلى، والله لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه.


ثم ألقى بنفسه على سعيد يبطش به، هنا تدخلت الزوجة الوفية فاطمة رضي الله عنها تدافع عن زوجها، فوقفت بينه وبين عمر تدفع عمر عنه، وفي لحظة غضب عارمة التفت عمر إلى أخته، ولم يدرك نفسه إلا وهو يضربها ضربة مؤلمة على وجهها، تفجرت على إثرها الدماء من وجهها. وإزاء ما حدث وفي تحدٍّ واضح، وقف سعيد بن زيد رضي الله عنه يتحدى عمر ويقول: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. وإن تعجب فعجب موقف أخته فاطمة المرأة الضعيفة، وقد وقفت في تحدٍّ صارخ وأمسكت بوجه أخيها عمر، وهي تقول له: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر.


ذهل عمر، ما هذا الذي يحدث؟! هل هذه هي أخته؟ ما الذي جرّأها إلى هذه الدرجة؟!

وعلى شدة بأسه وقوة شكيمته شعر عمر بأنه ضعيف وصغير، لا يستطيع أن يقف أمام هذه المرأة، وفي الوقت ذاته شعر وكأنها أصبحت جبلاً أشمًّا يقف أمامه، لقد تغيرت الدنيا وهو لا يدري.


ورغم ذلك وفي تعبير عن رقة عظيمة في قلبه تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال عمر: فاستحييت حين رأيت الدماء. وإذا كان الحياء كله خير، وإذا كان الحياء لا يأتي إلا بخير، فإن الرجل الذي ليس به خير هو الذي لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه ووقفت أمامه وتحدته، وبالأخص في هذه البيئة القبلية الجاهلية، تلك التي كانت تفقد فيها المرأة كثيرًا من حقوقها.
وفي تنازل كبير للغاية، يقول عمر: فجلست، ثم قلت: أروني هذا الكتاب. في نظره أن هذا مطلب عادي.

وكانت اللطمة والضربة الثانية الموجعة التي لم يكن يتوقعها على الإطلاق، حيث قالت له أخته فاطمة:

يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. وعلى عكس ما كان يتوقعه بَشَر قام عمر وفي هدوء عجيب، قام ليغتسل. لا شك أن هناك شيئًا غريبًا يحدث، شيئًا لا يمكن تفسيره إلا عن طريق قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].


وهنا قد شاء الله تعالى الهداية لعمر، وشاء الله تعالى الخير له وللمسلمين بل ولأهل الأرض جميعًا، قام عمر وسط هذه الأجواء ليغتسل في بيت أخته ليصبح طاهرًا فيقرأ الصحيفة. بعد اغتساله أعطته فاطمة رضي الله عنها الصحيفة يقرؤها، وبلسانه وعقله وقلبه قرأ عمر: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال مُظهِرًا خيرًا عميمًا: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلاَ (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1- 8].

تزلزل عمر رضي الله عنه، وقد وجد نفسه خاشعًا متصدعًا من خشية الله، وفي لحظة قد خالط الإيمان فيها قلبه قال عمر: فعظمت في صدري، فقلت: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله! فكان شأن عمر الساعة قد تبدّل، وكان هذا هو عمر، أسلم بمعنى الكلمة. وكانت هذه من أعظم لحظات البشرية على الإطلاق، لحظة تحول فيها رجل يسجد لصنم ويعذب المؤمنين إلى عملاق من عمالقة الإيمان، وإلى فاروق فرق الله به بين الحق والباطل، وإلى رجل يراقب الله في كل حركة وكل سكون، وكل كلمة وكل همسة، ثماني آيات فقط، صنعت الأسطورة الإسلامية العجيبة عمر.

وحين سمع عمر وهو يقول: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله! خرج خباب رضي الله عنه من مخبئه وقال: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللَّهُمَّ أَيِّدْ الإِسْلاَمَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"، فاللهَ اللهَ يا عمر.
 
أعلى