محمد صدقى الابراشى
Moderator
لا يَمْلِكُ الْقَارِئُ لِلْتَّارِيْخِ أَمَامَ مَا يُشَاهِدُهُ كُلُّ يَوْمٍ مِنْ حِصَارِ عَالَمِيَ وَإِقْلِيْمّيّ مَضْرُوْبٌ عَلَىَ أَهْلِ فِلِسْطِيْنَ الْأَبْطَالِ..
لا يَمْلِكُ قَارِئٌ الْتَّارِيْخِ أَمَامَ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْيَوْمِيَّةِ إِلَا أَنْ يَتَذَكَّرَ حِصَارا ضَاغِطا مُمَاثِلَا، تَحَالَفَتْ عَلَيْهِ أَحْزَابُ الْعَرَبِ لِإِنْهَاءِ وُجُوْدِ الْإِسْلامُ مِنْ أَرْضِ الْمَدِيْنَةِ الْمُنَوَّرَةِ.. عَلَىَ عَهْدِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
فَكَمَا تَحْتَشِدُ كُلِّ هَذِهِ الْقُوَىَ وَتَتَحِزّبُ لإِزْهَاقٍ الْرُّوْحِ الْفِلَسْطِيْنِيَّةِ الْرَّافِضَةِ لِلِاسْتِسْلَامِ.. فَقَدْ تَحَزَّبَ عَشْرَةَ آَلَافِ مُقَاتِلُ عَرَبِيْ (فِيْ عَدَدِ غَيْرِ مَسْبُوقٍ عَرَبِيا!)،
وَضَرَبُوا حِصَارا مُشَابِها حَوْلَ مَدِيْنَةِ رَسُوْلِ الْلَّهِ r.. حَتَّىَ وَصَفَ الْلَّهُ حَالُ الْمُؤْمِنِيْنَ الْوَاقِعَيْنِ تَحْتَ الْحِصَارِ الْقَاسِيْ بِقَوْلِهِ تَعَالَىْ
: "إِذْ جَاءُوْكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ.. وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوْبُ الْحَنَاجِرَ.. وَتَظُنُّوْنَ بِالْلَّهِ الْظُّنُوْنَا!!.."
ثُمَّ تُعَلِّقُ الْآَيَاتِ عَلَىَ هَذَا الْمَوْقِفِ بِوَصْفٍ رَبَّانِيِّ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُوْنَ:
"هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُوْنَ وَزُلْزِلُوْا زِلْزَالا شَدِيْدا"..
مَا أَشْبَهَ الْلَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ!..
وَلَكِنَّ الْعَجِيْبِ فِيْ الْمَوْقِفِ الْأَوَّلِ (وَهُوَ مَا نُرِيْدُ أَنْ نَتَعَلَّمَهُ لِحَاضِرِنَا الْيَوْمَ) أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ الْحِصَارِ، وَاجْتَمَعَ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ الْبَرْدِ وَالْجُوْعِ وَالْخَوْفِ..
وَافْتَقِدُوا كُلِّ مُقَوِّمَاتِ الْنَّجَاةِ الْمَادِّيَّةِ – فَضْلَا عَنِ الِانْتِصَارِ وَالْغَلَبَةُ –
إِذَا بِرَسُوْلِ الْلَّهِ لَا يُبَشِّرُهُمْ فَقَطْ بِالْنَّجَاةِ مِنْ حِصَارِ قُرَيْشٍ وُحُلَفَائِهَا..
بَلْ يُبَشِّرُهُمْ بِسِيَادَةٌ الْعَالَمِ!!
كَمَا رَوَىَ أَحْمَدُ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ أَنَّ صَخْرَةٍ شُقَّتْ عَلَىَ الْمُسْلِمِيْنَ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، فَجَاءَ r يُعِيْنُهُمْ: "...فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ الْلَّهِ.. فَضَرَبَ ضَرْبَةً، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: الْلَّهُ أَكْبَرُ.. أُعْطِيَتُ مَفَاتِيْحَ الْشَّامِ!!.. وَاللَّهِ إِنِّيَ لَأُبْصِرُ قُصُوْرَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِيَ هَذَا.. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ الْلَّهِ.. وَضَرَبَ أُخْرَىَ، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: الْلَّهُ أَكْبَرُ.. أُعْطِيَتُ مَفَاتِيْحَ فَارِسَ!!.. وَاللَّهِ إِنِّيَ لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِيَ هَذَا.. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ الْلَّهِ.. وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَىَ، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: الْلَّهُ أَكْبَرُ.. أُعْطِيَتُ مَفَاتِيْحَ الْيَمَنِ!!.. وَاللَّهِ إِنِّيَ لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِيَ هَذَا!!.."
وَهِيَ بِشَارَاتٍ لَا يَتَحَمَّلُهَا (بِالْنَّظَرِ إِلَىَ مَرَارَةٍ الْوَاقِعِ) إِلَا قُلِبَ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَعَقْلِهِ..
فَالْمُؤْمِنُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِيْ يُمْكِنُهُ الْتَّوْفِيْقُ بِسُهُوْلَةٍ بَيْنَ زَلْزَلَةَ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءُ،
وَبَيْنَ وَعَدَ الْنَّصْرِ وَالتَّمْكِيْنِ.. ذَلِكَ أَنَّ الْلَّهَ عَلَّمَهُ أَنَّ الْنَّصْرَ وَالتَّمْكِيْنِ لَا يَأْتِيَانِ إِلَا بَعْدَ عُنْفَ الْزَلَزَلَةْ
وَقَسْوَةِ الامْتِحَانِ حَتَّىَ يَتَمَيَّزُ الإِيْمَانِ مِنْ الْنِّفَاقِ..
وَكُلَّمَا اقْتَرَبَ الْنَّصْرُ ازْدَادَ الْبَلَاءُ، حَتَّىَ إِذَا وَصَلَ الْمُسْلِمُوْنَ إِلَىَ مَرْحَلَةِ الذِّرْوَةِ فِيْ الِابْتِلَاءِ
جَاءَ نَصْرُ الْلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيْ وَقْتْ لَا يَتَوَقَّعُهُ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ.
يَقُوْلُ الْلَّهُ تَعَالَىْ: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوَا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوْا حَتَّىَ يَقُوْلَ الْرَّسُوْلُ وَالَّذِينَ آَمَنُوْا مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ الْلَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ الْلَّهِ قَرِيْبٌ"
مَتَىَ يَكُوْنُ الْنَّصْرُ قَرِيْبا؟
يَكُوْنَ قَرِيْبا إِذَا وَصَلَ الْمُسْلِمُوْنَ إِلَىَ مَرْحَلَةِ الْزِّلْزَالَ.
يَكُوْنَ قَرِيْبا عِنَدَمّا تَصِلُ الْفِتْنَةِ إِلَىَ ذُرْوَتِهَا.
يَكُوْنَ قَرِيْبا عِنْدَمَا يَعْلُوْ نَجْمِ الْبَاطِلِ، وَتَنْتَعِشُ قُوَّتِهِ، وَتَتَعَاظَمُ إِمْكَانِيَّاتِهِ.
يَكُوْنَ قَرِيْبا عِنْدَ تَجَمُّعٌ الْأَحْزَابُ، وَعِنْدَ تَحَالُفٌ شَيَاطِيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لِاسْتِئْصَالُ الْمُؤْمِنِيْنَ...
عِنْدَ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ يَكُوْنُ الْنَّصْرُ قَرِيْبا فِعْلَا.
وَمِنْ ثَمَّ لَا يَتَسَلَّلُ الْإِحْبَاطِ وَالْيَأْسِ مُطْلَقا إِلَىَ نَفَسٌ الْمُؤْمِنِ أَمَامَ وَطْأَةِ الْخَطْبُ وَقَسْوَةِ الْحِصَارِ.. بَلْ هُوَ يَرَىَ تِلْكَ الْمَصَاعِبِ وَالْمِحَنِ مُقَدِّمَاتُ ضَرُوْرِيَّةِ لِلْنَّصْرِ.. وَهُوَ مَا حَكَتْهُ الْآَيَاتِ عَنْ مَوْقِفِ الْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ
: "وَلَمَّا رَأَىَ الْمُؤْمِنُوْنَ الْأَحْزَابَ قَالُوْا هَذَا مَا وَعَدَنَا الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ وَصَدَقَ الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيْمَانا وَتَسْلِيْما"..
أَمَّا الْمُنَافِقُوْنَ فَلَا مَكَانَ فِيْ قُلُوْبِهِمْ الْمَرِيضَةً لِعَظَمَةِ الْلَّهِ، وَلَا لِصِدْقِ وَعْدَهُ!!
فَهُمْ لَا يُنْظَرُوْنَ إِلَىَ قُوَّةٍ الْأَعْدَاءِ إِلَا بِأَبْصَارِهِمْ الْكَلِيْلَةُ الْمَقْطُوَعَةِ عَنْ جُنُوْدُ الْسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّتِيْ بِيَدِ الْلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
.. فَإِذَا أَبْصَرُوا أَحْزَابُ الْعَدُوُّ تُحْكَمُ الْحِصَارِ،
وَإِذَا مَسَّهُمْ الْضُّرُّ مِنْ جَرَّاءِ الْحِصَارِ.. قَالُوْا (كَمَا حَكَىَ عَنْهُمْ الْقُرْآَنُ الْكَرِيْمِ):
"وَإِذْ يَقُوْلُ الْمُنَافِقُوْنَ وَالَّذِينَ فِيْ قُلُوْبِهِمْ مَّرَضٌ مَا وَعَدَنَا الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ إِلَّا غُرُوْرا".
فَتَخْرُجَ نَارٌ الْمِحْنَةِ أَسْرَارْ الْنِّفَاقِ مِنْ أَعْمَاقِ الْنُّفُوْسُ.. وَتَتَحَرَّكُ الْأَلْسِنَةٍ بِالاسْتِهْزَاءِ وَالْرِّيبَةِ فِيْ وَعْدِ الْلَّهِ!! وَيَضْطَرِبُ الْإِيْمَانِ الْهَشِّ فِيْ الْقُلُوْبِ.. وَتَزِلُّ الْأَقْدَامَ، وَتَكْتَسِيَ الْوُجُوْهَ بِالْهَلَعِ وَالْخَوْفِ.. وَيَسْتَشْعِرُونَ اسْتِحَالَةِ الْنَّجَاةِ – فَضْلَا عَنِ الْنَّصْرِ! – بَلْ قَدْ يُسَارِعُوْنَ بِالْوَلَاءِ لِلْعَدُوِّ، وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ جَبْهَةِ الْإِيْمَانِ!!
عِنْدَئِذٍ – وَعِنْدَئِذٍ فَقَطْ – يَجْتَبِيْ الْلَّهِ هَذِهِ الْنُّفُوْسِ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهَا بِنَصْرِهِ؛ فَقَدْ عَادَتْ أَقْوَىْ وَأَقْرَبَ لِخَالِقِهَا.. وَقَدْ عَادَتْ أَقْدِرُ عَلَىَ حَمْلٍ أَعْبَاءُ الْنَّصْرُ الْثَّقِيْلَةِ.. قَالَ تَعَالَىْ:
"مَا كَانَ الْلَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ عَلَىَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الْطَّيِّبِ وَمَا كَانَ الْلَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَىَ الْغَيْبِ وَلَكِنَّ الْلَّهَ يَجْتَبِيْ مِنْ رُّسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ..."
وَلِذَلِكَ لَمْ تَقُمْ دَوْلَةٌ الْإِسْلامُ فِيْ الْمَدِيْنَةِ إِلَّا بَعْدَ نَجَاحِ الْمُسْلِمِيْنَ فِيْ الْصَّبْرِ وَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَىَ ضَرَاوَةً الْحِصَارِ فِيْ شِعْبٍ أَبِيْ طَالِبٍ ثَلَاثٍ سَنَوَاتٍ!! وَلَوْ شَاءَ الْلَّهُ لَخَفَّفَ الْحِصَارِ عَنْهُمْ.. أَوْ مَنَعَهُ مِنْ الْأَسَاسِ.
وَكَذَلِكَ لَمْ تَسْتَطِعْ دَوْلَةً الْإِسْلَامِ الْوَلِيِّدَةُ فِيْ الْمَدِيْنَةِ أَنْ تَدْخُلَ مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ الْفَتْحِ وَالتَّمْكِيْنِ إِلَا بَعْدَ الْنَّجَاحَ (بِتَفَوُّقٍ!) أَمَامَ امْتِحَانَ الْأَحْزَابُ وحِصَارِهُمْ..
فَلَمَّا رَدَّهُمْ الْلَّهُ بِغَيْظِهِمْ.. "لَمْ يَنَالُوْا خَيْرا!!.
." قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ r (كَمَا رَوَىَ الْبُخَارِيُّ):
"الْآَنَ نَغْزُوَهُمْ وَلَا يَغْزُوْنَنَا.. نَحْنُ نَسِيْرُ إِلَيْهِمْ!!".
. وَمَا كَانَ لِيَقُوْلَهَا جُزَافا.. بَلْ كَانَتْ إِيْذَانا بِبَدْءِ عَهْدٌ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْنَّصْرُ لَمْ يُدْخِلْهُ الْمُؤْمِنُوْنَ إِلَا مِنْ بَابِ الْمِحْنَةِ وَالْحِصَارُ..
لَيْسَتْ آَلَامٍ الْحِصَارِ وَالْقَصْفِ الَّتِيْ تُعَانِيْهَا أَرْضِ فِلِسْطِيْنَ – إِذا – إِلَا بَشَائِرَ نَصْرٍ قَرِيْبٌ..
"..هَذَا مَا وَعَدَنَا الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ.. وَصَدَقَ الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ!!".
وَلَا يَبْقَىْ عَلَىَ الْمُؤْمِنِيْنَ حَوْلَ فِلَسْطِيْنَ إِلَا اسْتِكْمَالَ الاسْتِعْدَادِ لِنَصْرِ الْلَّهِ وَالْعَمَلُ لَهُ:
بِيَقِيْنٍ رَاسِخٌ يَمْلَأُ الْقُلُوْبُ.. وَثِقَةً مُطْمَئِنَّةً تَسْتَقِرَّ فِيْ الْنُّفُوْسِ.
وَبِدَعْمٍ مُتَوَاصِلُ بِالْمَالِ وَسَائِرِ الاحْتِيَاجَاتِ الْمُلِحَّةِ..
وَدُعَاءُ آَنَاءَ الْلَّيْلِ وَأَطْرافّ الْنَّهَارِ: أَنْ يُثَبِّتَ الْلَّهُ الْمُجَاهِدِيْنَ، وَيُنَزِّلُ عَلَىَ الْأُمَّةِ آَيَاتِ نَصَرَهُ..
وَنُشِرَ لِلْقَضِيَّةِ مِنْ مَنْظُورِهَا الْصَّحِيْحِ عَبْرَ شَتَّىْ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمُتَاحَةِ..
التعديل الأخير بواسطة المشرف: