رد: ألف ليلة وليلة
الليلة 48
الفوضى العلمية :
من أخطر ما أصاب الأمة اليوم الفوضى العلمية والتجرُّؤ على الفتيا ....
فإن عامّة المسلمين فضلا عن المنتسبين إلى العلم خاصة والذين يدّعون أنهم على منهج السلف بوجه أخص يتجرءوا على الفتيا و القول على الله بغير علم مما يُنذر بتفحل الشر وتصاعد لهيب الفتن و اضطراب الأمور أكثر و أكثر
و السبب في ذلك ترأس الجهلة أمر الفتيا وأخذهم العلم من غير طريقه وعن غير شيوخه و عدم تحصيلهم لأدواته
فلتحذروا عباد الله ........ فليس كل من أًلَّف كتابًا أو حقق مخطوطا أو ألقى محاضرة أو صعد منبرا و أطال اللحية و قصر الثياب و تكلم بفصيح الكلام فهو عالم رباني
ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا » اللفظ البخاري و عند مسلم ( إِنَّ اللَّه لَا يَقْبِض الْعِلْم اِنْتِزَاعًا يَنْتَزِعهُ مِنْ النَّاس ، وَلَكِنْ يَقْبِض الْعِلْم بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُك عَالِمًا اِتَّخَذَ النَّاس رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْم فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )
قال ابن رجب : ( وما دام العلمُ باقياً في الأرض ، فالنَّاس في هُدى ، وبقاءُ العلم بقاءُ حَمَلَتِهِ ، فإذا ذهب حملتُه ومَنْ يقومُ به ، وقع الناسُ في الضَّلال )
قال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث:
(قال الإمام الطرطوشي رحمه الله تعالى فتدبروا هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبلهم )
وَذكر ابن مفلح : أن رَبِيعَة بَكَى فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ : ( اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ )
روى الدارِمي عن ابن مسعودٍ - رضي اللَّه عنه - قال : ( عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِى مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ ، وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَاماً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ.) رجاله رجال الصحيح .
و أخرجه عبد الرزاق و الطبراني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بلفظ:"عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنْ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ يَنْبُذُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ".
قال ابن القيم في الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناحية :
( هذا وإني بعد مُمْتَحِنٌ بأر ... بعة وكلهم ذوو أضغان
فظٌّ غليظٌ جاهلٌ مُتَمَعْلِمٌ ... ضخم العمامة واسع الأردان
مُتَفَيْهِقٌ مُتَضَلِّعٌ بالجهل ذو ... ضلع وذو جلح من العرفان
مُزْجَي البضاعة في العلوم وإنه ... زاج من الإيهام والهذيان
يشكو إلى الله الحقوق تَظَلُّمًا ... من جهله كشكاية الأبدان
من جاهل مُتَطَبِّبٍ يُفتي الورى ... ويحيل ذاك على قضا الرحمن )
روى الخطيب في نصيحة أهل الحديث و كذا في الفقيه و المتفقه و البيهقي في المدخل إلى السنن عن عبد الله قال : ( لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا )
و أخرج الخطيب عن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قال : سئلت عن قوله : لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم يريد : « لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ، ولم يكن علماؤهم الأحداث ، لأن الشيخ قد زالت عنه ميعة الشباب وحدته وعجلته وسفهه و استصحب التجربة والخبرة فلا يدخل عليه في علمه الشبهة ، ولا يغلب عليه الهوى ، ولا يميل به الطمع ، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث ومع السن الوقار ، والجلالة والهيبة ، والحدث قد يدخل عليه هذه الأمور ، التي أمنت على الشيخ ، فإذا دخلت عليه ، وأفتى ، هلك وأهلك »
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في ( بيان فضل علم السلف على الخلف ) :
وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم. فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله. ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين. )
روي ابن مفلح عن سفيان أنه قال : ( أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْفُتْيَا أَسْكَتُهُمْ عَنْهَا وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ فِيهَا .)
و ذكر ابن مفلح عن ربيعة أنه قال : ( وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ .)
و ذكر عن ابن مَعِينٍ أنه قال : ( الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ أَحْمَقُ )
وقال أَيْضًا : ( إذَا رَأَيْتَنِي أُحَدِّثُ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَيَنْبَغِي لِلِحْيَتِي أَنْ تُحْلَقَ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى عَارِضَيْهِ )
وقال ابْنُ عُيَيْنَةَ وَسَحْنُونٌ : ( أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا )
و قد قيل : ( أفسد ما يفسد الدنيا نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي هذا يفسد الأديان وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان )
............................................................
قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح العقيدة الطحاوية :
( فكلمة (الجَمَاعَةَ) جاءت في عدد من الأحاديث نَصَّاً، وجاءت في القرآن مَعْنَىً في قوله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[آل عمران:103]، وفي قوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}يعني جميعاً دون تفريق، و{السِّلْمِ} في الآية يعني الإسلام.
{ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يعني ادخلوا في الإسلام كافة. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}[البقرة:208]، بأن تُفَرِّقُوا بين أمرٍ وأمرٍ من أمور الإسلام، فيجب الدخول فيه كافة، وألَّا يقول المسلم إذا أسلم (أنا أدخل في بعض الإسلام ولا أدخل في بعض، أو ألتزم ببعضٍ ولا ألتزم ببعض أو أُقِرُّ ببعضٍ ولا أُقِرُّ ببعض)، ونحو ذلك.
و (الجَمَاعَةَ) في هذا الموطن اختلف السلف في تفسيرها على عدة أقوال -يعني الآية والحديث وفي غيرهما أيضاً من كلام السلف-. والذي يجمع كلام السلف كما أوضحته لكم في غير موضع: أَنَّ الجماعة نوعان:
- جماعَةٌ في الدين.
- وجماعَةُ في الأبدان والدنيا.
وأنَّ النصوص تشمل هذا وهذا، وأَنَّ من فَسَّرَ من السلف (الجَمَاعَةَ) بجماعة الدين فإنه -يعني من الصحابة والتابعين - تَفْسيرٌ للشيء ببعض أفراده، كما هو عادة السلف، ومن فَسَّرَهَا بأنها جماعة الأبدان والاجتماع على الإمام وولي الأمر فإنَّهُ يعني بها فرداً أو بعض أفراد الجماعة.
فالجماعة نوعان:
1 - أولاً: جماعةٌ في الدين: وهي الأساس الأعظم لما أنزل الله - عز وجل - به كتبه وأرسل به رسله، فإنَّ الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل أن يجتمع الناس في دينهم، وهو توحيد الله - عز وجل -، عبادته وحده دون ما سواه والبراءة من الشرك وأهله، وطاعة رسوله الذي أرسله على الرسل صلوات الله وسلامه.
وهذا هو الذي جاء في نحو قوله - جل جلاله - في سورة الشورى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13] يعني واجتمعوا عليه، وهو المذكور في قوله {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[آل عمران:103].
وهذا الاجتماع في الدين هو أَعْظَمُ أَمْرٍ لأجله بُعِثَت الرسل وأُنْزِلَت الكتب، وهو الذي من أجله يجاهد المجاهد ويدعو الدَّاعِي، وهو الذي من أجله آتى الله - عز وجل - الرسل الآيات والبينات، أن يجتمعوا لأجل تحقيق الدين، لأجل ألا يفترق الناس في الالتزام بما يُرْضِي الله - عز وجل - فيما يستحقه في العبادة والطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فيدخل هنا في الاجتماع: الاجتماع في ملازمة الإسلام، والالتزام به، وألا نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض، وأن يُدْخَلَ في الإسلام كافَّة دون تفريقٍ ما بين مسألة ومسألة -يعني من حيث الاعتقاد والإقرار والإذعان والالتزام-.
2 - ثانياً: جماعة الأبدان: يعني اجتماع الأبدان والدنيا بملازمة طاعة من وَلَّاهُ الله - عز وجل - الأمر، والسمع والطاعة في غير معصية الله - عز وجل -.
وهذا النوع وسيلة لتحقيق الأوَّلْ، فالأمْرُ به والنهي عن الخروج عن الولاة والأمْرْ بالاجتماع فيما أَحَبَّ الإنسان وكَرِهْ، كما جاء في الحديث «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره»، هذا به يتحقق الاجتماع في الدين.
والتفريط في الأول أو في بعضه يُعَاقِبُ الله - عز وجل - به بالفرقة في الثاني أو بعضه ، وكذلك التفريط في الثاني وهو: السمع والطاعة لولاة الأمور في غير المعصية والاجتماع وعدم الخروج،
التفريط في الثاني يُنْتِجُ التفريط في الأول أو في بعضه.
ولهذا ما مِنْ فُرْقَةٍ في الأبدان حصلت في الأمة إلا وكان معها وبعدها من الافتراق في العقائد ونفوذ البدع والمُحْدَثَات ما لا يدخل في حُسْبَان.
فالأمران مترابطان، والجماعة مطلوبَةٌ في هذا وهذا ومأمورٌ بها، وجماعة الدِّين واجتماع الناس في دينهم حقٌ وصواب، وإحداث المحدَثَات باطل وغلط وضلال، وكذلك الاجتماع في الأبدان والدنيا حقٌ وصواب وخلافه بالفُرْقَةْ والخروج باطلٌ وزيغٌ وضلال.)
...........................................................
أخرج البزار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من قوم مشوا إلى سلطان الله ليذلوه إلا أذلهم الله قبل يوم القيامة".
قال الهثيمي : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا كثير بن أبي كثير التيمي وهو ثقة.
و أخرجه عبد الرزاق عن حذيفة موقوفا قال : ( ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا ) رواته ثقات
و أخرجه ابن زنجويه في الأموال عن زيد بن يثيع ، قال : تجهز ناس من بني عبس إلى عثمان ليقاتلوه ، فقال حذيفة : « ما سعى قوم ليذلوا سلطان الله في الأرض إلا أزلهم الله قبل أن يموتوا »
و أخرج ابن سعد عن راشد بن سعد : أن عمر بن الخطاب أتى بمال فجعل يقسمه بين الناس فازدحموا عليه فأقبل سعد بن أبى وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه فعلاه عمر بالدرة وقال : ( إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله فى الأرض فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك )
و روى الترمذي عن زياد بن كسيب العدوي قال : كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق فقال أبو بلال : انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق . فقال أبو بكرة : اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول
من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله ) قال الترمذي : هذا حديث غريب و رواه أيضا البزار و حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة و ظلال السنة و الجامع الصغير
و روي الشهاب القضاعي بسنده عن أبي بكرة ، قال : سمعت ، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أهان سلطان الله فى الأرض أهانه الله ومن أكرم سلطان الله فى الأرض أكرمه الله )
قال الهيثمى : رجاله ثقات .
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي :
(قَوْلِهِ : ( مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ )
أَيْ مَنْ أَهَانَ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَأَلْبَسَهُ خِلْعَةَ السَّلْطَنَةِ أَهَانَهُ اللَّهُ . وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِسُلْطَانِ اللَّهِ تَعَلُّقَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { إِنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } وَالْإِضَافَةُ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ ، إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ ، كَبَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ )
قال الملا على القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح :
( ولعل الاعتراض الوارد عليه لكونه نصيحة تتضمن فضيحة يتفرع عليه فتنة صريحة ويحتمل أن لا يكون منهما لكن لما كان لبس ثياب الرقاق من دأب المتنعمين نسبه إلى الفسق وقد قال بعضهم : من رق ثوبه رق دينه . فقال أبو بكرة : اسكت سمعت رسول الله يقول : ( من أهان سلطان الله في الأرض ) أي أذل حاكما بأن آذاه أو عصاه ( أهانه الله ) قال الطيبي : والظاهر هذا الاحتمال لأن أبا بكرة رده بقوله من أهان الخ يعني تفسيقك إياه بسبب لبسه هذه الثياب التي يصون بها عزته ليس بحق لأن المعنى من أهان من أعزه الله وألبسه خلع السلطنة أهانه الله )
...........................................................
هل للفتن من فوائد ؟
سؤال يطرح نفسه هل للفتن من فوائد ؟
نعم . للفتن فائدة جليلة و عظيمة ألا و هي أنها تكشف حقائق الناس مهما زينوها و ستروها فيظهر إيمان المؤمن و يفتضح نفاق المنافق و يميز الخبيث من الطيب
قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )
قال الطبري :
(فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ) منهم في قيلهم آمنا( وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) منهم في قيلهم ذلك، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار، وفي حال الاختبار، وبعد الاختبار، ولكن معنى ذلك: ولَيُظْهِرَنَّ الله صدق الصادق منهم في قيله آمنا بالله من كذب الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوّه، ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه )
و ذكر الطبري عن ابن إسحاق أنه قال : ( "وليمحص الله الذين آمنوا"، أي يختبر الذين آمنوا، حتى يخلِّصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صَبْرهم ويقينُهم.)
و قال أيضا : ( "ويمحق الكافرين"، أي: يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم.)
قال ابن بطة العكبري :
(فإن هذه الفتن والأهواء قد فضحت خلقا كثيرا ، وكشفت أستارهم عن أحوال قبيحة ، )
قال الحسن البصري :
(والناسُ ما داموا في عافيةٍ مستورون، فإذا نزَلَ بهم بلاءٌ صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافقُ إلى نِفاقه )
قال ابن القيم :
( فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب قال تعالى : ( ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )
فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق وطيب وخبيث فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها )
الثمرة الوحيدة للفتن أنها تكشف عن بواطن الناس وحقائقهم فهم في العافية يتجملون و يظهرون خلاف ما يبطنون فإذا ظهرت الفتن فكل يظهر على حقيقته الذي على الحق يظل متمسكا به و لا يتلون أما مدعي الحق فإنه يتلون كالحرباء
فلا يثبت في الفتن إلا من كان على الحق حقيقة لا إدعاء و لذا كان من خصائص مذهب الحق الثبات و الاستقرار لا التلون قال حذيفة رضي الله عنه : ( و إياك و التلون فإن دين الله واحد )
و رحم الله الإمام أحمد كيف ثبت على الحق في المحنة أيام المأمون و المعتصم و الواثق و كيف فعل عندما أراد علماء بغداد الخروج على الواثق و جادلهم حتى أقعدهم عن الخروج رحمه الله و لم يحمله ما لقاه على أيديهم من أذى من أن يخالف سنة المختار صلى الله عليه و سلم بل كان من أشد الناس تمسكا بالسنة و التزاما بها
......................................................
كلام مهم لابن القيم في النظر في حقائق الأمور
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
(والحق قد يعتريه سوء تعبير فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ثم اعط النظر حقه ناظرا بعين الإنصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق وقد قيل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
وقال آخر :
نظروا بعين عداوة لو أنها ... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا
فإذا كان هذا في نظر العين الذي يدرك المحسوسات ولا يتمكن من المكابرة فيها فما الظن بنظر القلب الذي يدرك المعاني التي هي عرضة المكابرة والله المستعان على معرفة الحق وقبوله ورد الباطل وعدم الاغترار به )
.................................................
لنا عباد الله في الصومال عبرة ( جماعات متناحرة – دولة بلا دولة ) و في العراق عبرة ( شيعة و سنة – إبادة للسنة – تقسيم للدولة ) و في الجزائر عبرة ( دم أريقت بأيدي أبنائه ) و فيما مضى من التاريخ عبرة ( فتنة الحرة – مقتل ابن الزبير و صلبه – إراقة دماء العرب على أيدي الخراسانين ) ( الثورة العرابية بقيادة عرابي و جمعية مصر الفتاة الماسونية ثم احتلال مصر ) و السعيد من وعظ بغيره
أنشد الحارث بن حِلِّزة اليشكري:
لا أَعرِفنّكَ إن أرسلتُ قافيةً ... تُلقِي المَعاذيرَ إن لم تنفع العِذَرُ
إنّ السّعيدَ له في غيره عظَةٌ ... وفي التّجارب تحكيمٌ ومُعْتَبَرُ
قال أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة
( وقد قيل: تجارب المتقدمين، مرايا المتأخرين، كما يبصر فيها ما كان، يتبصر بها فيما سيكون، والشاعر قد قال:
والدهر آخره شبهٌ بأوله ... ناسٌ كناسٍ وأيامٌ كأيام
وليس من حادثةٍ ماضيةٍ إلا وهي تعرفك الخطأ والصواب منها لتكون على أهبةٍ في أخذك وتركك، وإقدامك ونكولك، وقبضك وبسطك، وهذا وإن كان لا يقي كل الوقاية، فإنه لا يلقى في التهلكة كل الإلقاء.)